الرجوع

البابا فرنسيس في العراق: "يا محبّي الله اتحدوا"

الجمعة

م ٢٠٢١/٠٣/٠٥ |

هـ ١٤٤٢/٠٧/٢٢

يُحكى أن الزعيم الشيوعي "جوزف ستالين" (1878-1953)، خلال حكمه لأكبر مساحة عرفَتها البشرية حديثًا، أراد أن يحقق الإلحاد المطلق. فقضى على 95% من مظاهر الدين، وفكَّر مثلًا في تدمير كاتدرائية "القديس باسيليوس" في ساحة الكرملين، لكنه تراجَع لجمال فنّها وهندستها المعمارية. وقد سبقه في هذا الجنون الثوار الفرنسيون سنة (1789)، ودول كثيرة كرّرت ذلك، حتى شاهدنا أخيرًا ما تركته الدولة الإسلامية حيثما حلَّت، إذ فجرت في المَوصِل مَرقد النبي يونس والجامع الكبير، والكنائس التي وقعت تحت سيطرتها ولم تدم سوى ثلاث سنوات. مع ذلك، وعلى الرغم من هذا الجانب العنيف المدمِّر في كل مكان، نُقابل لدى البشر محاولات عميقة لقراءة معنى وجودنا على الأرض، ولفهم تعدّد الإجابات عن سرِّ وجودنا في كل منطقة وعصر. 

التاريخ إذًا يتكرر، عبْر محاولات بعضهم لربط "النُّتَف" التي لدينا من المعنى. فيأتي بعضهم بالقوّة، وبعضهم الآخر بالتبشير والإقناع. صراعُ الأديان لم يختلف كثيرًا عن الإيديولوجيات التي سادت القرن 19، الذي قرأ الدنيا من منظور اقتصادي فقط. فقال كارل ماركس (1818 - 1883): "يا عمّال العالم اتَّحِدوا"، ولبَّى النداء عدد هائل، وسادُوا حوالي قرنَين، لكنهم تجمّدوا وتحاربوا، وانهارت أنظمتهم أو تُركت. فلم يعُدْ أحد يسمع النداء، أو يتحرّك له.

في الربع الأخير من القرن العشرين، حدث تجمُّع فريد لم يُسبق له مثيل. كان ذلك يوم 27 تشرين الأول/أكتوبر 1986 في مدينة أسِّيزي في إيطاليا، حيث اجتمع ممثلو جميع الأديان (الصغيرة منها والكبيرة)، بدعوة من البابا يوحنا بولس الثاني (1920-2005)، ليُنعش ذاكرتهم إزاء جذورهم. كان تجمّعًا غريبًا لم يَسبقه مثيل، لكنه تكرَّر مرات عديدة في الأعوام (1993، و2002، و2011، و2016). قال كلُّ المؤمنين الحاضرين بدون تمييز: "يا مؤمني العالَم اتَّحِدوا" من أجل السلام. كانت بدايةَ تَوجُّه غير مسبوق؛ إذ رأت الأديان أن عليها أن تَخرج من قوقعتها المذهبيّة والمحلية، وتُعطي الجوهر الذي فيها، والذي تسعى إليه، شهادةً. فالله اسمه "سلام"!

إن زيارة البابا فرنسيس لِـ"أُور" الكلدانيِّين، هي بِالحَرَى حجٌّ إلى بيت إبراهيم "أبي المؤمنين"، يَدخل ضِمن استلهام روح أبٍ مشترَك لأديان سادت الكرةَ الأرضية، وهي مسؤولة عن بشاعات كثيرة، وتَعرَّض كلٌّ منها لهزَّات هائلة صارت تُهدّد وجودها. ففي الغرب تَرْكٌ واضح للإيمان وتراجُع للتديّن، إمَّا باللامبالاة، أو بالإلحاد المكشوف الذي ضرب بقوة أُسسَ تديّنهم. وفي الشرق خُطِف الدِّين وحُرّف على يد المذاهب والإرهاب، فاختفى وجهه تحت غطاء مشوَّه، حيث نسي الناسُ أنَّ قلْبَ الدين هو بحثٌ عن وجهه الكريم.

لا يسعى البابا فرنسيس إذًا إلى تقارُب بعضنا من بعض بوَصفِه أولوية، وإنما إلى التقرّب من نبع أصيل حرَّكه شخص واحد، حين أعطى كلمة "إيمان" معنًى آخر. وهذه الكلمة أصابها التشوّه والنسيان. فالتقاليد التي تَناقَلها الناس عن إبراهيم تُشدّد على أنه غيَّر التدين إلى إيمان؛ أي إنه لم يكتفِ بالعبادة والصلاة عن مصلحة -كما يفعل الجميع-، ولكنه وضع رمزية شديدة العمق لَدَينا في الشرق خصوصًا. قال لربه: "لو خُيّرتُ بين طفلي ومستقبلي وبينك لاخترتك أنتَ". إنه سيد مُحبّي الله، وجميع المتصوّفين والقديسين والأولياء، وكلِّ مَن بذل وضحّى ومات من أجل "الآخر"، الذي ليس مجرد فكرة، بل "شخصًا" يحاول أن يَعرفه كما عرَفه إبراهيم.

يذكِّرنا البابا فرنسيس بأن استلهام إبراهيم يضعنا أمام مسؤولية، للتخلص من تشوهات طرأت علينا جميعًا عبر الزمن، فنسِينا الجوهر. لذا، يكرر: "يا مُحبِّي الله اتَّحِدوا". وهي من جديد خارطة طريق للقرن الحالي، الذي اتسم بالعنف والكراهية. إنها محاولة استعادة للجوهر، ووضع النقاط على أحرف نسيناها، وهي الموضوع الأجمل في تراث الايمان، بلا مقارنة بعضنا ببعض، ولا تفضيل. فالجميع أخطأوا وأساؤوا وخانوا الأمانة، ولكن يبقى إبراهيم "أبًا للمؤمنين"، لأنه وضَع اللهَ في موقف تحدٍّ لكل المحبّين الأُصَلاء، فسُمّي ذلك "عهدًا"، وأصبح هو "خليلًا"، إذ لم يعُدِ الربُّ الإله سوى "خليلٍ" وصديقٍ لإبراهيم ونسْله، اشتراهم بسخاء الإيمان، وجعل الله يقسم بعهده مع صديقه: أنا إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. 

لقد فهِم كُتّاب الأسفار المقدسة الأوائل، أنَّ مسار الإيمان سيظل مُوازيًا لمسار التديّن وأشكاله المتنوّعة. وسيقوم دائمًا في كل عصر مَن يُصفِّي الدِّين، ليَستخرج منه "شَذَرات" (Pépites) الإيمان، هذا الذهب الذي -ولو بكميات قليلة- يكفي كلَّ جيل من الأجيال الصاعدة. ولهذا، يتحدّى المسيحُ المستقبَل حين يقول: "عندما يأتي ابن الانسان، هل يا ترى سيَجد إيمانًا على الأرض؟" (لوقا 18: 8). لم يقل "ديانة"، بل "إيمانًا". وهذا لعمري أكبر تحدٍّ لنا جميعًا: هل عندي إيمان، أم أنني أستخدم الله لمصلحتي فقط؟ 

سيقف البابا فرنسيس في "أور" مع ممثلي الأديان (من جميع المكوِّنات)، على أرضٍ قدَّسها إيمان إبراهيم، وسيقولون: يا رب زدنا إيمانًا بك مثلما كان لإبراهيم، فننسى مشاكلنا وتقلُّباتنا وصراعاتنا وكراهِيَتَنا. ساعِدنا على أن نكون أولادًا أُصَلاء لأبي المؤمنين، آمين.

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

إخترنا لكم

Alternate Text
جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive