-
- كَشفَت الإبادةُ الأخيرة، التي تَعرَّض لها الفلسطينيون في غزة طيلة خمسة عشر شهرًا، عن التواطؤ القديم بين المشروع الصهيوني والقوى الاستعمارية الكبرى، التي تبنَّت المشروع منذ وعد آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطاني، الذي نصَّ على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد مثَّل هذا الوعد نقطة تحوُّل في تاريخ المسألة اليهودية في أوروبا، بعد أن فشلت المجتمعات الغربية في إدماج مواطنيها من أَتْباع الديانة اليهودية. وعوضًا عن الاستمرار في اضطهادهم وكراهيتهم، انتقل العقل البراغماتي الاستعماري إلى استغلالهم، ليكونوا قاعدة متقدمة في مشاريعها الاستعمارية والتقسيمية في المشرق العربي، والذي أصبح وفق سرديتهم الاستعمارية جزءًا من الشرق الأوسط.
- مثّلَت كراهية اليهود واضطهادهم ظاهرةً مستديمة في المجتمعات الغربية، وتَعرَّض يهود أوروبا لعملية إبادة مأسَوِيَّة مِن قِبل النظام النازي الألماني وحلفائه الغربيين (1933-1945)، أدت إلى مقتل ملايين اليهود الأوروبيين. وقد مهَّدَت هذه الجريمةُ لِجريمة أخرى بحق شعب آخر، لا ذنب له في قتل هؤلاء الأوروبيين اليهود. فقد أعطت الجرائمُ النازية المشروعَ الصهيوني "قُبلة الحياة"، وهو الذي قام أساسًا على تهجير يهود أوروبا نحو فلسطين، حيث بلغ عدد المهاجرين اليهود عام 1948: 700 ألفٍ، بعد أن كان عددهم قُبَيل وعد بلفور لا يتجاوز 60 ألفًا. وهذا يعني أنه لولا المحرقة، ما كانت النكبة.
- في معادلة الطغيان، يُعطي المحتلُّ نفسَه الحقَّ في قتل الشعوب، الذين يحتلُّ أرضهم تحت ذريعة الدفاع عن النفس، في مقابل اعتبار حقِّ الشعوب في مقاومة الاحتلال إرهابًا وجريمة. وفي الوقت الذي نجد فيه أنصار الحزب الجمهوري واليمين الأميركي، يرفضون الإجهاض تحت عنوان حق الحياة، نراهم يقدِّمون كل أسلحة الدمار لقتل آلاف الأطفال والأمهات الفلسطينيين في قطاع غزة. ولم يكن مستغرَبًا، منذ اليوم الأول لتوَلِّي الرئيس الأميركي الجديد لسلطاته الدستورية، أن يسارع إلى العفو عن المستوطنين الصهاينة الذين قاموا بحرق بيوت الفلسطينيين وممتلكاتهم، وأرهبوا الأطفال والنساء، والذين يعتبرهم القانون الدَّولي مجرمين. هذه الازدواجية في استدعاء حق الحياة تجاه المجتمع الأميركي أو الإسرائيلي، في مقابل دعم إبادة الإنسان الفلسطيني، هي الخطر الأكبر الذي يهدد قيم المجتمع الأميركي، الذي قرر قادتُه السياسيون أن يَفقدوا إنسانيتهم، لإرضاء اللُّوبي الصهيوني والجماعات الإنجيلية المتصهينة، وتحقيق مصالح المَركب الصناعي العسكري، وشيءٍ من المنافع الاقتصادية الملوَّثة بالدماء.
- إن الحديث عن الأخلاق عند الطغاة المستعمرين، ليس سوى غلافٍ خادع يخفون وراءه مصالحهم، وقبح غرورهم. فالقيم الأميركية التي يحق للأميركيين الافتخار بها، هي تلك التي يجب أن تَرفض الاحتلال، وتَمنع قتل الأبرياء، وتدعو إلى احترام القانون الدولي. وهذا خلافٌ لِما نجده من مواقف رسمية، من قبيل إصدار تشريعات لمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية، بسبب إصدارها مذكِّرة توقيف بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية، بتهمة جرائم الحرب في غزة. أيضًا لا ننسى ما قام به الرئيس ترامب في ولايته السابقة، عندما نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، واعترف بسيادة إسرائيل لِلجولان المحتلِّ، دون اكتراث لِما يمثله ذلك من تقويضٍ واحتقار للقانون الدولي.
- نحن أمام عقل إمبراطوري يقوم على السيطرة والاستعلاء، وتَجاوُز أيِّ قانون أو عُرْف أو منظومة أخلاقية تَحُول دون بلوغ أهدافه وغاياته. فعندما تجتمع عقيدة التفوقِ العِرقي والمركزيةِ الغربية مع العنصرية المقدسة، التي تعطي فئةً من الناس الحقَّ في الاستيلاء على أوطان شعوب أخرى، بِاسم "إله قبيلة مقدسة" - فإنَّ ميزان الأخلاق سيختلُّ، ويُسلب من الشعوب حقُّها الطبيعي في أوطانها.
- يدرك كثير من عقلاء اليهود والمنصفين منهم، أن الإبادة التي تَعرَّض لها اليهود في أوروبا، لا تُبرر الإبادة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي على أرض فلسطين. وبحسب ما يقول محمود درويش في قصيدة له بعنوان "إلى قاتِل":
- "لو تأملتَ وجه الضحية وفكَّرْت
- كنتَ تذكرتَ أمَّك في غرفة الغاز
- كنتَ تحرَّرْتَ من حكمة البندقية وغيَّرت رأيك
- ما هكذا تُستعاد الهُويّة".
- من أكبر الأخطاء، التي وقع فيها كثير من الكُتَّاب والدعاة الإسلاميين المعاصرين، نفْيُهم واستخفافُهم بالإبادة التي تَعرَّض لها يهود أوروبا، وكأنهم في ذلك يقدمون خدمة للقضية الفلسطينية. وهنا، أذكر حوارًا جرى في عام 2011 بيني وبين موظفة أميركية تعمل في وزارة الخارجية، حول اقتراح تدريس الهولوكوست في الكتب المدرسية في الأردن. فكان مما قلتُه لها: إنني أرى أن هذه الفكرة هي ضرورة أخلاقية، تُعبِّر عن رفض الظلم والإجرام الذي قام به النازيون وأعوانهم ضد اليهود في أوروبا. لكنَّ رفض الهولوكوست يجب أن يشتمل على رفض كل جرائم الإبادة والقتل، التي قامت بها الحركة الصهيونية في فلسطين، حيث القتل والتطهير العرقي وحرق قرى كاملة، وتشريد مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء. وهكذا، عندما تقوم المدارس الأميركية والبريطانية والألمانية والإسرائيلية بتدريس تلك الجرائم (الهولوكوست الفلسطيني)، فإنَّ كتُب التعليم المدرسي في العالم العربي سوف تقوم بتدريس الهولوكوست اليهودي. عندما أنهيتُ كلامي، صمتَت تلك السيدة، وأخذت أوراقها وخرجَت.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.