دوم هلـدر كامارا - أُسْقُفُّ الفقراء ورائد لاهوت التحرير المسيحي (1909-1999)
سيرتـــه
وُلد دوم هلدر بيسوا كامارا (Dom Hélder Pessoa Câmara)، في 7 شباط/فبراير 1909، في مدينة فورتاليزا سيارا شمالي شرق البرازيل، وهي منطقة فقيرة في البلاد. كان أبوه يعمل مُحاسبًا، وأمُّه معلمة في مدرسة ابتدائية. تلقَّى تعليمه في مدرسة كاثوليكية في بلدته، والتَحَق سنة 1923 بالسيمينير، وهي مدرسة لِتَكوين الكهنة. رُسِم كاهنًا١ سنة 1931 برخصة خاصة من الفاتيكان، بسبب صِغَر سنه آنذاك. أصبح نائبًا أُسْقُفِّيًّا٢ في مدينة ريو دي جانيرو سنة 1952. في سنوات كهَنُوته٣ الأولى كان مساندًا لمنظمة يمينية متطرفة تسمى ‘‘إنتغراليزمو’’ أي الأصولية، لكنه تخلَّى لاحقًا عن هذا الخيار الأيديولوجي، بل إنه اندفع في الاتجاه المعاكس وأسَّس منظمَّتَين اجتماعيَّتَين هما: ‘‘رابطة سيارا للعمل’’ سنة 1931، و‘‘الاتحاد الكاثوليكي للمرأة العاملة’’ سنة 1933. ثم عُيِّن سنة 1959 كبير أساقفة أوليندا ورسيف.
أُطلق عليه لقب ‘‘أُسْقُفّ الأحياء الفقيرة’’؛ بسبب دفاعه عن المهمَّشين الذين كانوا يعيشون في أحياء القصدير على أطراف المدن. وقد عمِل مع كهنة آخرين على تشجيع الفلاحين على تحرير أنفسهم من الجهل ومن الاستسلام لأوضاعهم الصعبة، عن طريق دراسة الإنجيل في مجموعات صغيرة، بحثًا عن معنى جديد للحياة، وعن التغيير الاجتماعي من خلال قراءاتهم. أيضًا ساهم بقوة في تشكيل مجلس أساقفة البرازيل سنة 1952، حيث شغل منصب أوّل أمين عامّ له حتى سنة 1964. وفي سنة 1959 ، أسَّس في ريو دي جانيرو ‘‘بنك العناية الإلهية’’، وهو منظمة خيرية لمحاربة الفقر والظلم الاجتماعي، بواسطة توفير قروض ميسَّرة لمحدودي الدخل.
شارك دوم هلدر كامارا في جميع جلسات المَجْمع الفاتيكاني الثاني٤، وكان له دور هامٌّ في تحرير وثيقة الدستور الرَّاعَوِيّ ‘‘الكنيسة في عالم اليومفرح ورجاء’’ Gaudium et spes. في نهاية المَجمع وتحديدًا في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1965، اجتمع ليلًا أربعون أُسْقُفًا برئاسة دوم هلدر كامارا، في مقبرة دوميتيللا خارج مدينة روما، وهي مقبرة رومانية قديمة تحت الأرض، والمكان يحمل رمزية خاصة، لأن تلك المقابر كانت مكانًا لاجتماع المسيحيين، إبَّان الاضطهاد الروماني في بدايات الديانة المسيحية.
فوقَّعوا هناك على وثيقة سمِّيت بـ‘‘ميثاق المقابر’’، تحتوي على 13 بندًا، يَدعُون فيها الأساقفةَ إلى عيش التقشف والبساطة الإنجيلية، من دون ألقاب تشريفية ولا امتيازات. وأيضًا يَدعُون إلى الانفتاح على الجميع بغضِّ النظر عن المعتقَد.
لقد أصبحت الكنيسة الكاثوليكية في البرازيل، بقيادة كبير الأساقفة دوم هلدر كامارا، صوتًا ناقدًا ضد الديكتاتورية العسكرية الحاكمة في السنوات 1964-1985، حيث انتَقدَت نظام العنف واضطهاده لمعارضيه، وما انجرَّ عن ذلك من ظلم وفقر وتهميش. وقد أجَّج ذلك حلفاءُ النظام من المحافظين الدينيين، الذين حرَّضوا على اعتقاله بسبب دعمه للإصلاح الزراعي. وقد أدَّت هذه الأجواء المشحونة إلى اغتيال بعض الكهنة المقرَّبين من دوم هلدر كامارا.
رُشِّح اسم دوم هلدر كامارا لنيل جائزة نوبل للسلام سنة 1973، ولكنه لم ينَلْها لاعتراض بعض أعضاء لجنة الجائزة. وفي 27 آب/أغسطس 1999، توفي دوم هلدر كامارا عن عمر يناهز التسعين، في مدينة رسيف البرازيلية. وفي سنة 2015 بدأ مَسار تطويبه، وهي المرحلة التي تسبق إعلان القداسة في الكنيسة الكاثوليكية. وذلك بطلب من خلَفِه كبير أساقفة أوليندا ورسيف.
فكـــــره
يُعَدُّ دوم هلدر كامارا من أبرز وجوه ‘‘لاهوت التحرير’’، وهو تيار لاهوتي٥ حديث ظهر في أميركا اللاتينية في القرن العشرين، ثم انتشر في مختلف أنحاء العالم، بل إنه يُعَدُّ عابرًا للأديان والثقافات، خاصة في إفريقيا وآسيا، بين الشعوب التي عانت الاستعمارَ والهيمنة الإمبريالية. ومن المفكرين المسلمين الذين تأثروا بلاهوت التحرير، أصغر علي إنجنير في الهند، وفريد إسحاق في جنوب إفريقيا. أيضًا كان دوم هلدر كامارا أحد منظِّمي مؤتمر أساقفة أميركا اللاتينية، ويُعتبر تاريخ انعقاد المؤتمر الثاني من هذا النوع في مدينة ميديلين الكولومبية عام 1968، تاريخَ ولادة لحركة لاهوت التحرير.
يُعطِي هذا التيارُ اللاهوتيُّ العدالةَ الاجتماعية والتضامنَ مع الفقراء والمهمَّشين الأولَوِيّةَ، إذ لا يَفصل بين الفكر والعمل. لذلك، فإن الكثير من أتْباع هذا التيار ناشطون اجتماعيًّا وسياسيًّا، ولديهم مواقف نقدية معلَنة من الأوضاع التي يعيشونها؛ إذ لا مجال للعزلة والحياد. أيضًا يمتلك هذا التيار رؤيةً نقدية لعلم اللاهوت التقليدي، الذي كثيرًا ما يتَّسم بالنُّخبَوية والمحافَظة، بل ويقع أحيانًا في تبرير تَجاوُزات السلطة أو يَغْفُلها تمامًا، في حين يُنتقد لاهوت التحرير من قِبل خصومه باعتباره تَسْيِيسًا للدين، أو فِكرًا متحالفًا مع قوى اليسار، ومُتَبنِّيًا للمقولات الشيوعية بِلَبُوس مسيحي إنجيلي. كان دوم هلدر كامارا واعيًا بهذه الانتقادات. ولذا، قال قولته الشهيرة: ‘‘عندما أُساعد الفقراء يعتبرونني قدّيسًا، وعندما أَسألُ عن سبب فقرهم، يعتبرونني شُيوعيًّا’’. أمَّا فيما يتعلق بمسألة العنف، فقد عبَّر دوم هلدر كامارا في إحدى مقابلاته، عن مساندته لِخِيار اللَّاعنف، وعن عدم اعتباره العنف سبيلًا إلى تطبيق مبادئ الإنجيل، مع أنه يحترم خيار حَمْل السلاح لمناهضة الظلم والاستبداد، ولا يُدِينُه أخلاقيًّا. أيضًا يُعرّف ‘‘الاشتراكية’’ التي يُؤْمن بها، بأنها من نوع خاص. فهي تحترم الإنسان، وتَرجع بجذورها إلى الإنجيل، وهي رديفة للعدالة الاجتماعية. وبذلك، يتَّفق مع ماركس في تحليله ونقده للرأسمالية، ولكنه يختلف معه في النتائج والحلّ.
في أوْجِ التصعيد في الحرب الأميركية في فيتنام سنة 1971، ألّف دوم هلدر كامارا كُتيِّبًا بعنوان ‘‘دوّامة العنف’’، ربط فيه بين الظلم البُنْيوي (المستوى الأول من العنف)، والتمرّد المتصاعد (المستوى الثاني)، وردّة الفعل القمعية (المستوى الثالث). في هذا الكتيِّب، دعا هلدر كامارا الشباب في العالم إلى اتخاذ خطوات فعّالة، من شأنها وقف دوامة العنف، والابتعاد عن سلوك الكُبَراء المُدمِنين على السلطة والتَّربُّح من الصراعات. فلا بد من امتلاك الجرأة على كسر حلقة العنف الجهنمية، التي تستهلك الجميع.