الأخت إيمانويل - العمل والشهادة من قلب مدينة “الزَّبَّالِين

الأخت إيمانويل الأخت إيمانويل

الأخت إيمانويل - العمل والشهادة من قلب مدينة “الزَّبَّالِين

سيرتـــها

سيرتها وُلدت “مادلين سانكان” -التي عُرفَت لاحقًا بالأخت إيمانويل- سنة 1908، في العاصمة البلجيكية “بروكسل”، لأبٍ فرنسي وأم بلجيكية، كَوَّنَا عائلةً ثريَّة من العمل في صناعة الملابس. تُوفِّي والدها عندما كانت في عمر السادسة؛ ما ترك أثرًا عميقًا في داخلها. فتابعت حياتها، ونَحَتْ -بعد تردُّد واختبار- نحْوَ الحياة الرهبانية التي دخلتها سنة 1929، متَّخِذة اسم “إيمانويل”، الذي يعني “الله مَعَنا”. درَسَت الفلسفة، ثم الآداب لاحقًا في جامعة السوربون. بعدها، عمِلَت معلِّمة في مَدرسة إرسالية في إسطنبول، وبقيت في هذه المدينة بشكل متقطع حتى الستينيَّات، دون أن يخلو الأمر من رحلات متكررة إلى الإسكندرية وتونس، حيث قضت مدَّة في تدريس الفلسفة والأدب.

بعد أن رأت حال جامِعِي القُمامة في القاهرة وسوء معيشتهم، والذين عُرفوا بـ“الزَّبَّالِين”، قررت مَطلع السبعينيَّات -بعد موافقة رهبنتها- أن تعيش معهم وتساعدهم. فعملت الأخت إيمانويل على تأسيس مدرسة المحبة سنة 1988، لأولاد جامعي القُمامة في حيِّهم “حيّ الزَّبَّالِين”، في منطقة “عِزْبة النَّخل” شمال شرق القاهرة، مُنْقِذة بذلك أعدادًا لا تُحصى منهم من فخِّ الأُمِّيَّة والفقر، ومُوفِّرة لهم مساحة نظيفة آمنة، تُشكِّل متنفَّسًا لهم، بعيدًا عن منازلهم المتواضعة غير الصحية والمحاطة بأكوام القمامة، في حين يَدفع أهلُهم ما أمْكَنَهم من أقساط المدرسة، أو يُعفَون منها إن لم يكن في إمكانهم توفيرها.

إضافةً إلى العمل على تعليم الأطفال، ناضلَت أيضًا في سبيل محاربة العنف الأُسَري بحقِّ الزوجات وحق الأطفال. فاستطاعت بما لها من احترام بنَتْه مع الوقت في نفوس جامِعِي القمامة، وبإصرار دؤوب، على بلوغ ما تريد، مترافقًا ذلك مع المحبة التي كانت أعمالها تُعبِّر عنها، حيث أحرزَت تقدُّمًا ملموسًا على هذا الصعيد. وأيضًا لم تُهمل مكافحة تعاطي المشروبات الكحولية، الذي كان يَطُول حتى الأطفال.



الأخت إيمانويل


اِفتتحت الراهبة المتقدمة في العمر عيادات متخصصة، ودُور حضانة للأطفال، ومراكز لمحو الأُمِّيّة، وساهمت في دعمها عبْر شبكة من المهتمِّين والمتبرِّعين حول العالم، بواسطة جمعية أسَّسَتها، وصارت تُعرَف لاحِقًا بِاسْم: “اسْمَعِي جمعية الأخت إيمانويل”، حيث نَشِطَت في 8 بلدان لتساعد قرابة 50 ألف مستفيد مباشر، بِغضِّ النظر عن انتماءات المستفيدين الدينية أو الإثنية أو الثقافية أو السياسية.

حازت الأخت إيمانويل على تقدير هؤلاء الناس الطيبين، إذ عاشت بينهم متحمِّلة ما كانوا يتحملونه من روائح كريهة وأخطار الإصابة بالأمراض، وكل ما رافق ذلك من الفقر وانتشار الجهل. وهذا التقدير ساهم في التخفيف بعض الشيء، من صعوبة مهمَّتها في إقناع بعضهم بإرسال أطفالهم إلى المدارس، وبالسماح لزوجاتهم بممارسة ببعض الأنشطة التَّوعوية، التي كانت الأخت إيمانويل تعمل على تقديمها لهن.

جاءت عودتها إلى فرنسا خلافًا لإرادتها، إذ كانت ترغب في البقاء قرب “إخوتها وأهلها” في القاهرة. فحوَّلَت الأخت إيمانويل هذه العودة إلى نضال جديد، إعلاميٍّ هذه المرة، لتدافع عن قضايا الفقراء والمشرَّدين والمهاجرين، مشجِّعةً على بناء المساكن والمستوصفات والمدارس، لانتشال هؤلاء المعذَّبين ممَّا هم فيه، مقدِّمةً أفكارًا تقدمية قد تزعج بعضهم، لكنها تدل على حيوية تفكيرها، وجرأتها في التفكير والتعبير.

تقول الأخت إيمانويل عن نفسها: إنها ليست قدِّيسة، وترفض -من باب التواضع- مقارنتها بالأم “تريزا”. فلم تُخْفِ بعض الخصال السيئة فيها كإنسانة، مثل الحقد والغضب -كما قالت-، أو خوفها من الألم. وأيضًا صرَّحَت بأنها مُناضِلة عنيدة من أجل حقوق المرأة. لذا، منحَتها السلطات المصرية سنة 1991 الجنسية المصرية، تكريمًا لها على جهودها، والتي بقيت مواظبة عليها في مصر حتى سنة 1993، إذ بلغت من العمر 85 سنة. فعادت بناءً على أمر السلطة الرهبانية إلى فرنسا، لتَنقل خبراتها إلى غيرها من أخواتها الراهبات.

ألَّفَت الأخت إيمانويل مجموعة من المؤلَّفات، مثل: حياة مع الفقراء، يلَّا يا شباب، اعترافات راهبة. وكانت وفاتها سنة 2008 عن 99 عامًا. فبقي طِيب ذكراها حاضرًا إلى اليوم، من خلال المشاريع الحيَّة التي أسَّسَتها، ومن خلال جمعيتها وجمعية أصدقائها، التي تأسَّست في مَسقط رأسها.



فكـــــرها

حاولت الأخت إيمانويل دومًا، خدمة مَن هم أكثر احتياجًا. فهي قد أتت مصرَ أولًا لخدمة المصابين بالجُذام، ولكنَّ تعقيداتٍ بيروقراطية ومحاذير مختلفة، جعلت ما تريده غير ممكن التحقيق. فانصرفت إلى فئة محتاجة أخرى هي “الزَّبّالون”، وأصبحت أختهم ورفيقتهم.

مع أنَّ جامِعِي القُمامة كانوا في غالبيتهم من المسيحيين الأقباط، فإنَّ الاحتكاك بالمواطنين المسلمين الذين يعيشون في مناطق نشاط الأخت إيمانويل، كان احتكاكًا يوميًّا. وقد رفضت بتفكيرها وعملها كل الصور النمطية السائدة عن المسلمين، سواء لدى جامعِي القمامة، أو لدى المجتمع الغربي الذي أتت منه. فتقول: إن المسلم “ليس عنيفًا أو متعصبًا بطبيعته”، وتَرفض أيَّ تمييز بين الناس –إلى أيِّ دين انتمَوا- الذين يستفيدون من نشاطها. أيضًا رفضت منع ارتداء الحجاب في المدارس المسيحيّة، من باب احترام أفكار الآخرين ومعتقداتهم.

في المقابل، حَظِيَت الأخت إيمانويل بمحبة المسلمين كما المسيحيين؛ إذ كانت قد وضعت منهجًا واضحًا لعملها، يتمثل بعدم تبشير١ المسلمين، وإنما بالعمل من أجل فهم متبادل عن طريق المحبة، من خلال كل الأديان. وقد كان سرورها عظيمًا، حين قام نجَّارٌ مسلم طلبَت منه صُنع باب لمسكنها، بِنَقْش هلالٍ وصليب على الباب مع عبارة “الله محبة”، مؤكِّدةً أنها على عكس الفيلسوف الفرنسي سارتر، الذي قال: “الآخَرون هُم الجحيم”، إذ تقول: إن الآخرين هم المَلكوت٢ ، وهو أمر مشروط بمقدار المحبة الموجودة في قلوب بعضنا تجاه بعض.

هذه المسيرة الحافلة للأخت إيمانويل بالعمل والإنجاز، لم تكن لِتَتحقق لولا إصرارها على تحقيقها، وعملها الدؤوب البعيد عن الراحة، إذ إنها ترى “الراحة الحقيقية في المَلكوت بجوار الخالق”. وقد تَرجمت هذا الاعتقاد في ممارستها، عندما بدأتْ رسالتَها في القاهرة بعد تجاوزها 60 عامًا من العمر، ولم تُغادرها حتى بلغَت 85 عامًا. وأيضًا لم يتوقف نشاطها حتى بعد ذلك.

في أحد كُتبها تقول: “أثناء إقامتي في تركيا وتونس ومصر، كان لي الحظُّ في أن أعْرِف عن الإسلام وثراءه الداخلي. في حواراتنا القلبية، تحدثتُ قليلًا جدًّا عن ديانتي، مع الآلاف من أصدقائي، مفكرين أو زبالين، الذين يتشاركون الإسلام. لقد كان احترام معتقداتنا المتبادلة دائمًا أساس علاقتنا. إنها أولًا الصداقة التي تسقط الحواجز.”

تبنَّت الأخت إيمانويل مواقف غير معتادة، بالنسبة إلى الجماعة الدينية التي انتمت إليها. فدعمت استعمال حبوب منع الحمل في بلد كمِصْر، يشاهد تزايدًا سكّانيًّا غير مضبوط. وهو الأمر الذي يخالف التوجهات الرسمية للكنيسة الكاثوليكية. أيضًا تأثَّرَت بالاحتكاك بالإكليروس الشرقي، الذين يحق لهم الزواج -بخلاف الإكليروس٣ الغربي-. فدعَت إلى السماح للكهنة الكاثوليك بالزواج، واقترحَت أنْ يقُوم الفاتيكان بِبَيْع بعض مقتنياته الثمينة في سبيل الفقراء والمحتاجين.

الأخت إيمانويل
جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive