المِطْران غريغوار حداد - مطران الفقراء والعلمانية

المِطْران غريغوار حداد المِطْران غريغوار حداد

المِطْران غريغوار حداد - مطران الفقراء والعلمانية

سيرتـــه

وُلد نخلة أمين حداد (المعروف بِاسْم المِطْران غريغوار حدَّاد)، في سوق الغرب قرب عاليه في جبل لبنان سنة 1924، من أبٍ بروتستانتي من أصول أرثوذكسية، وأمٍّ تنتمي إلى كنيسة الروم الكاثوليك. دخَل مَدرسة قريته، ثم انتقل إلى مدرسة النهضة التابعة لدير القِدِّيس جاورجيوسالشير، حيث نال شهادة السيرتيفيكا.

اِنتقل لاحقًا سنة 1937 إلى الإكليريكية1 الشرقية التابعة للآباء اليسوعيين في بيروت، حيث أنهى تحصيله المدرسي بشهادة الباكالوريا القسم الثاني سنة 1943، ثم باشَر دراساته اللاهوتية2 في جامعة القديس يوسف اليسوعية قرابة 6 سنوات، لينال بعدها السِّيامة الكهنوتية3 في دير الشير على يد المطران4 فيلبس نبعة (متروبوليت بيروت وجبَيل وتوابعهما)، حيث اتَّخذ اسم ‘‘غريغوار’’ بسبب إعجابه هو ووالده بشخصية المطران غريغوار حداد، الذي كان بطريرك5 كنيسة الروم الأرثوذكس، وعُرِف بفقره وتواضعه، ومساعدته للمحتاجين، وعلاقته الأَخَويَّة بالمسلمين.

أسَّس ‘‘الحركة الاجتماعية’’ سنة 1961 لتحقيق التنمية الاجتماعية للجميع، وخصوصًا الفئات المهمَّشة في كل المناطق اللبنانية. فنَشِطت الحركة في العمل الإغاثي، خلال الحرب الأهلية اللبنانية.

تُعَدُّ الحركة الاجتماعية جمعيّةً لاطائفية ولاحزبية، تعمل إلى جانب أكثر الفئات تهميشًا في مختلف المناطق اللبنانية، وتهتم بالإنسان ‘‘كل إنسان وكل الإنسان’’، إذ هو في صُلب اهتمامات الحركة التي تسعى إلى تفعيل دور المُواطن، وحثِّه على بناء سُبل تَضامُن جديدة. لا تكتفي الحركة الاجتماعية بالتدخل المباشر إلى جانب المستفيدين من برامجها، أو بِتَوعيتهم بحقوقهم كي يطالبوا بها، بل تعمل على توعية المجتمع المدنيّ بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية، وتُطالِب الجهات المسؤولة بتطوير سياسات، تأخذ بعين الاعتبار الحاجات والحقوق الأساسية لِأَكثر الفئات تهميشًا. تلتزم الحركةُ الاجتماعيةُ إلى جانب مبادئ أخرى، اللَّاطائفيَّةَ واللافئويةَ واللاحزبية واللاعنف.



المِطْران غريغوار حداد

بَعْد تَولِّي غريغوار حداد مَهامَّ أُسْقُفٍّ مُساعد لمطران بيروت خلال 3 سنوات، انتخبه سينودوس6 كنيسة الروم الكاثوليك سنة 1968 مِطْرانًا، لِواحدة من أهم أبرشيَّات7 هذه الكنيسة في الشرق الأوسط، وهي أبرشية بيروت وجبيل وتوابعهما، حيث عمل على تنظيم العمل الرَّعَوِيّ9، ونشاطات الأبرشية، وضبط المداخيل. أيضًا أَطلَق برفقة بعض المهتمين مجلة ‘‘آفاق’’، التي ضمَّت أعدادُها مقالات روحية ولاهوتية نوعية، طرحَت أفكارًا ونقاشات حيوية غير معتادة.

عاش المطران غريغوار حداد زاهِدًا، متجنِّبًا مَظاهر الفخامة والأُبَّهة المعتادة، ولُقِّب بمِطْران الفقراء.

أدَّى نشاط المِطران غريغوار حداد الرَّعَوِي والفكري، إلى بعض حالات سوء فهم. فقرَّر سينودس الكنيسة تنحِيَته عن مطرانية أبرشية بيروت، ومنْحَه لقب أبرشية ‘‘أضنة9’’ الفخري.

لم تُوقِف هذه التنحية نشاط المطران غريغوار حداد، الذي جذب الكثيرين من حوله، إذ عاد لأداء بعض المَهامِّ الكنَسِيَّة من حين إلى آخر، مثل إدارة أبرشية بعلبك ثم صُور، عند شغور كرسي المطران فيها، في انتظار انتخاب مطران جديد.

تَنقَّل المطران غريغوار حداد في إقامته، بين دَيرٍ للمتوحِّدين10 في فاريا والمَقرِّ البطريركي للروم الكاثوليك في الربوة، وأسَّس ‘‘تيار المجتمع المدني’’، الذي يسعى لبناء الدولة المدنية في لبنان، مناديًا بالعلمانية11 والديمقراطية واللاعنف.

تُوفِّي المِطران حداد سنة 2015، وكانت جنازته جامعة لكل من أحبه وتأثر به، من مختلف المناطق والطوائف والفئات.

ترَك المِطران حداد عدة كتب، منها: العلمانية الشاملة، تحرير المسيح والإنسان، المسيحية والمرأة، البابا ولبنان. إضافة إلى كُتُب في شرح قواعد اللغة العربية.

فكـــــره

شكَّل الإنسان، كلُّ إنسان، وخيْرُ كلِّ إنسان، مِحورَ اهتمام المطران غريغوار حداد وفِكره وتعاليمه. ويمْكن اعتبار رؤية تيار المجتمع المدني الذي أسَّسه المطران حداد، انعكاسًا لتعاليمه.

يرى حداد، أن المجتمع المدني يقوم على أساس نظرية التعاقد بين الفرد والمجتمع، مع التزام الجماعة (بمعنى جماعة المواطنين أو جماعة الأفراد)، قوانينَ واحدةً تَجمع وتساوي بين الأفراد. أيضًا يَستخدم تعبير ‘‘مجتمع الإنسان، كل إنسان وكل الإنسان’’، لِيَقصد جميع الناس بدون أي استثناء أو مفاضَلة أو تمييز (الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، وذوي الإعاقة...). يَهدف هذا التعبير إلى تغيير الذهنيات والبُنَى الفكرية والقوانين، في سبيل تحقيق أنْسَنة المجتمع وتنميته الشاملة، لكي لا ينمو إلَّا ما هو لأجل الإنسان.

يقول حداد أيضًا بـ‘‘سياسة القضايا لا سياسة الأشخاص’’. فسياسة القضايا تَقُوم على مساهمة كل فرد -من خلال مجموعة- في الاقتراح والتنفيذ، لِسياسة معيَّنة تلبِّي حاجات المجتمع. فالقضية هي المحور في هذا البناء القائم على تَشارُك الأفراد. وعليه، لا يتعلَّق المشروع بأحد هؤلاء الأشخاص، بل يقوم ويستمر برغبة التعاون عند الجميع، من أجل مبدأ أو قضية. أما سياسة الأشخاص، فهي التي تقُوم على ترئيس شخص ما أو تزعيمه، وكأنه يختصر الجماعة بكمالها. وهذا ما يؤدي غالبًا إلى انقسام الجماعة على نفسها، واهتمامها بجزئيات تُبعدها عن القضية، التي شكَّلت موضوع التقائها.

أما معضلات العنف والإشكاليات التي يطرحها، في بلد كلُبنان شهد حربًا أهلية دامت 15 عامًا، فيَرى المطران غريغوار حداد في نقيضها (اللاعنف) طاقةً تغييرية، مُعتبرًا أن النضال اللاعنفي طاقة إنسانية تغييرية للواقع العنفي، عن طريق مشروع عمَلٍ متكامل عند الفرد والمجتمع. فمبدأ اللاعنف يرتكز على الاحترام الكامل للإنسان، باعتباره القيمة الأساسية بين كائنات العالم. مِن هنا، يدعو المطران حداد إلى تحويل الأفراد والجماعات، مِن اعتماد العنف في تصرفاتهم، إلى اعتماد طرق الممارسة اللاعنفية، بوَصْفِها أرقى وسيلة لمعالجة الواقع الظالم.

اهتمَّ غريغوار حداد كثيرًا بالحوار المسيحي الإسلامي، واكتشف بالممارَسة أهمية التركيز وجَدْوَاه، على نشاطاتٍ جامعةٍ للشباب والشابات، مسيحيين ومسلمين، من مختلف الطوائف، معتمِدًا على التعارف عن قُرب، لتبديد الأوهام بينهم، وتصحيح الصور النمطية السلبية، ومعالجة الأحكام المسبقة.

مِن هنا، تطورت رؤية المطران حداد للعلمانية، التي نادى بها في وجه الطائفية، التي أجَّجت الصراعات في المجتمع اللبناني، مركِّزًا على العلمانية بمعناها غير المُعادي للدين، والتي تُراعي مقتضيات أوضاع بلادنا الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولا تُلغي الطوائف. فهي ليست علمانية مُلْحدة، بل تتبنى المُواطَنة الواحدة المؤسَّسة على المساواة والعدل والحرية

المِطْران غريغوار حداد
جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive