كريستيان دي شيرجي - شاهدٌ على عمق التضامن الروحي الإسلامي المسيحي والغربيالعربي والأُخوَّة الشاملة

كريستيان دي شيرجي كريستيان دي شيرجي

كريستيان دي شيرجي - شاهدٌ على عمق التضامن الروحي الإسلامي المسيحي والغربيالعربي والأُخوَّة الشاملة

سيرتـــه

وُلد كريستيان دي شيرجي في مدينة كولمار الفرنسية في إقليم الراين الأعلى (HautRhin)، في ۱۸ كانون الثاني/يناير ۱۹۳۷، في كنف عائلة مسيحية مؤلَّفة من ثمانية أطفال. تَربَّى فيها على الاستقامة والإخلاص، وعلى الإيمان والصلاة. فأَدرَك محبَّتَه للكنيسة، ودعْوَتَه الكهنوتية١. وقد وصف أمَّه في وصيته الأخيرة بقوله ‘‘هي كنيستي الأولى’’.

اِنتَقل كريستيان سنة 1942 إلى الجزائر، حيث أمضى فيها ثلاث سنوات، واصِفًا إيّاها بقوله: ‘‘لقائي الأول مع إيمان الآخر المختلف’’. في سنة ۱۹٤٥، عاد إلى باريس للدراسة عند الإخوة الماريست (معهد عالي للتعليم الديني الكاثوليكي)، وانخرط في الحركة الكشفية. وفي هذه المرحلة، ترسّخت لديه الدعوة الكهنوتية. بعدها، دخل الإكليريكية٢ في باريس في ٦ تشرين الأول/أكتوبر 1956. وأثناء تأديته واجب خدمة العلم في الجزائر سنة ۱۹٥۹، تَعرّف كريستيان إلى ‘‘محمد’’ (شاب جزائري مسلم)، جمعَته به صداقة، انتهت بموت محمد الذي دفع حياته ثمنًا لدفاعه عن كريستيان، عند مداهمة بعض المعتدين لهما. وهو الأمر الذي كان له الأثر الكبير في حياة كريستيان؛ إذ وصَف صداقتهما بقوله: إنها ‘‘المرة الأولى التي أستطيع أن أتكلم فيها عن الله بهذه البساطة، مُدرِكًا أنه (أي محمد) كان مسلمًا، ومع التأكيد على إيماني المسيحي’’. وفي عظة عن شهادة المحبة سنة ۱۹۹٤، عبّر عن الحادثة أيضًا بقوله: ‘‘لم أنْسَ يومًا مُحمَّدًا، الذي فداني بذاته، دفاعًا عن حياتي’’.

بعد عودته إلى باريس، ارتُسِم كاهنًا٣ في ٢۱ آذار/مارس ۱۹٦٤. وفي دير الرهبان السيسترسيان في مدينة Aigubelle الفرنسية، بدأ حياته المكرّسة (النُّذور المؤقتة٤) عام ۱۹٦۹. بعدها، انطلق إلى روما، حيث انكبَّ بين السنتَين ۱۹۷٢ و۱۹۷٤ على دراسة اللغة والثقافة العربية والدين الإسلامي، في المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية. وقد أشار كريستيان إلى هذه المرحلة قائلًا: ‘‘إتقان اللغة واكتشاف القرآن، بهدف الدخول في حوار مع جيراننا، كان الأهم بالنسبة إلَيَّ’’. في دَير ‘‘سيدة الأطلس’’ التابع لرهبنة الترابيست، والنائي بجبال ‘‘المدية’’، الذي يُطلُّ على بلدة ‘‘تبحيرين’’ جنوبي الجزائر، تَرهَّب في ٢٠ آب/أغسطس ۱۹٦۹. وقد أورد في الرسالة التي صاغها بمناسبة إيفائه للنُّذور المؤبَّدة٥ في 1 تشرين الأول/أكتوبر ۱۹۷٦، رغْبتَه في ‘‘عيش حياة مُفعَمة بالصلاة في خدمة كنيسة الجزائر، وبإصغاءٍ إلى الروح المسلمة حتى يوم مماتي’’.



كريستيان دي شيرجي

انْتُخِب سنة ۱۹۸٤ مسؤولًا عن دير الأطلس، وأُعيدَ انتخابه سنة ۱۹۹٠. فكان أحدَ أبرز أركان مجموعة ‘‘رباط السلام’’ ومُؤَسِّسيها، التي كانت تسعى للتعمق في الحياة الروحية والصلاة في الجزائر، من خلال الترحيب بكل مَن يُؤْمن بيسوع المسيح على اختلاف أديانهم. فشَكّل هذا الرباط واحةَ لقاءٍ وسعْيًا مشترَكًا لفهم الآخر المختلف. كتَب كريستيان أنه من خلال خِبرته في ‘‘تبحيرين’’: ‘‘أُدرِك جيِّدًا أن الله ينادينا جميعًا، وأن الله خلَق الإنسان لكي يُسبِّحهُ ويُكرِّس ذاته له. الصلاة هي التي تساعدني لكي أُعطي إخوتي مكانهم الصحيح، إلى جانب العيش معًا، والذي قد يمرُّ ببعض الصعوبات. الصلاة تسمح لي باكتشاف التقارب رغم المسافة، والتكامل رغم الاختلافات’’.

تُظهر العديدُ من النصوص الغِنَى الروحيَّ، الذي استمدَّه كريستيان دي شيرجي في إطار إيمانه المسيحي، من خلال حياته الرهبانية، وعيشِه مع المسلمين في الجزائر. وقد كتب وصيته الأخيرة في أواخر سنة ۱۹۹۳، بعد أن اقتَحمت فرقة من جماعة إسلامية متطرِّفة ومسلَّحة دير سيدة الأطلس. وعلى يد نفس الجماعة، فجر ٢٦ آذار/مارس ۱۹۹٦، خُطِف كريستيان مع ستة من الإخوة المكرِّسين، ليجري فيما بعد إعلان خبر نحرهم في 23 أيار/مايو 1996. والجدير ذكره أن كريستيان -قبل عام من مقتله- كان قد كتَب في وصيته الأخيرة أنه: ‘‘يسامح كلَّ من يَقتل. فنحن لا يمكن أن نَحيد عن طريق التسامح. فمهْما كانت النتائج، نطلب من الله أن يمدّنا بقوة الغفران’’. وفي الثامن من كانون الثاني/يناير ٢٠۱۸، أُعلِن كريستيان دي شيرجي وإخوتُه الرهبان الذين قتلوا طُوباويِّين٦ على مذابح الكنيسة الكاثوليكية.



فكـــــره

عاش كريستيان دي شيرجي ما آمَن به. فتَميَّز فِكرُه ولاهوتُه٧ بمفهوم الأُخوّة الشاملة العابرة للأديان، وسمحَت له حياته الرهبانية، بأن يكرِّس مسيرته الروحية واللاهوتية لتعزيز الأخوّة بين المؤمنين. فكان اختباره باكورةً ساهمت في تسليط الضوء على أهميّة اختبارات الكنيسة المحلية، وضرورة الاغتناء بها. ولم يقتصر لاهوتُه على التعاليم والأبحاث العلمية، بل تَميَّز بعيشِه حياةً زاهدة نمَت وتعمَّقَت من خلال الآخَر. أيضًا لم ينْسَ دي شيرجي حادثة اغتيال صديقه الذي التقاه سنة 1959. فتذكَّره في كل قدَّاس، وقارَن تضحية محمد بذاته من أجل الآخرين، بتقدمة يسوع لذاته في الإفخارستيا٨، وكتَب عنه: «هو حاضِر في كل إفخارستيا، في حضور يسوع الممجّد الذي وهب ذاته من أجلي ومن أجل الآخرين... فإنَّ دم صديقي الذي افتداني، سمح لي بأن أُدرك أنني مَدعُوٌّ إلى أنْ أَعيش رسالتي في هذا البلد نفسه، حيث اكتشفتُ المحبة الأسمى، التي بذلت نفسها من أجلي». هنا، يصح القول: إنَّ محمَّدًا سمح لكريستيان بأن يدرك معنى الإفخارستيا، حيث يعيش المسيحي حالة اتِّحاد مع يسوع. فأصبح الآخَر بالنسبة إلى كريستيان بمنزلة طريق، أتاحت له أن يبني إيمانه وقناعاته اللاهوتية على صخرة اللقاء به.

أدرَك دي شيرجي أن لكلٍّ منا مسؤولية تجاه أخيه الانسان: ‘‘إن مفهموم الأُخوّة ليس بالأمر الذي يمكننا أن نتخلى عنه ضمن الحياة المسيحية... لا بل هو جوهريٌّ، ويشكّل دورًا محوريًّا، كما العقيدة بالنسبة إلى الخلاص’’ (Dieu pour toujours, 1995, p. 47). لم يكتَفِ بهذا، بل وصَف الآخَر بأنه ضرورةٌ لا تَقتصر أهمية وجودها على الاحترام والمحبة المتبادلة وحسب، فكتَب: ‘‘الكلمة صارت أخًا’’، ووُضِعت على مائدة الأُخوَّة الشاملة، أيِ الأُخوّة الإنسانية العابرة لكل شكل من أشكال التمييز. إن هذه الأُخوَّة تقود المؤمن إلى المسامحة، وإنَّ للكنيسة دَورًا في عيشها وتجسيدها لمفهوم الأخوّة تجاه جميع المجموعات الثقافية والدينية. وبقدر ما تَنجح الكنسية في ذلك، يكُون نجاحها في تحرير ذاتها من مفهوم المنافسة، الذي يُعيق محبة القريب، ويشوِّه رسالتها تجاه الآخرين.

إنَّ الآخَر -بإيمانه ومعتقداته ومعرفته السليمة لدِينه-، شَكّل مَصدر إلهام والتزام عند كريستيان دي شيرجي. فأدرَك أنه صاحب مسؤولية في الدفاع عن أخيه الإنسان، وعن إيمانه، بقوله: ‘‘إنني أحببتُ جميع الجزائريين، حيث لم أستطع أن أنظر إلى أيٍّ منهم وكأنه لعب دور قايين إزاء أخيه’’. (L’invincible Esperance, p. 313). وبعد لقائه مع ‘‘صيَّاح عطية’’ المسؤول عن الجماعة المتطرفة المسلحة، التي غزَت دير الأطلس ليلة الميلاد سنة ۱۹۹۳، أدرك كريستيان التحديات التي تُحيط بمفهوم الأُخوّة، لا سيما عندما تكون هذه الأُخوّة ضحية العنف. فأخذ بالصلاة داعيًا: ‘‘انْزِعْ سلاحي، وانْزِعْ سلاحهم’’.

أشاد كريستيان بأهمية الصلاة، ودَورها في الحوار بين الأديان. فمِن خلال الصلاة معًا يتخطى المؤمنون عتَبة اللقاء السطحي، ليدخلوا معًا واحةَ الشركة، التي تُتيح لكلٍّ منهم أن يغوص في كنوز إيمانه، ليتفاعل -وبشكلٍ أغنى- مع الآخر، ثم لِيَكتشفوا معًا الدور أو الرسالة التي يتميز بها حضور كل منهم. لقد قارَن دي شيرجي ما بين عمَل الله والصلاة، فالدعوة إلى العمل تأتي من الله -إذْ هو مَن يَعمل مِن خلالنا-، والدعوة إلى الصلاة تأتي أيضًا من الله نفسه.

تَكمن حداثة الرسالة التي عاشها دي شيرجي في قراءَتِه اللاهوتية المتميزة والمبيَّنة على الرجاء. فكان لاهوتُ الرجاء االذي عاشه ونشره من خلال حياته مع إخوته الرهبان وإخوته المسلمين في الجزائر، العنوانَ الأول الذي ميّز رسالته.

كريستيان دي شيرجي
جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive