الرجوع

القرآن والوجه الآخر للديانة المصرية القديمة

الإثنين

م ٢٠١٧/٠٧/١٧ |

هـ ١٤٣٨/١٠/٢٣

من الأسئلة الأساسية التي يمكن الانطلاق منها للتعرف إلى الوجه المشرق للحضارة المصرية، السؤال التالي: لماذا أطلق القرآن تسمية "الملك" على ملك مصر في قصة يوسف، في حين أطلق تسمية "فرعون" على ملك مصر في قصة موسى عليه السلام؟ والفكرة الجوهرية التي تكمن وراء هذا السؤال هي أن فرعون كشخصية مستبدة وظالمة لا تمثل الأنموذج الطبيعي من ملوك الحضارة المصرية القديمة، فضلًا عن تمثيلها لعموم تلك الحضارة.

عرَفَت الديانة المصرية القديمة عقيدة التوحيد، والتي تمثلت في أوضح صورها بالإله أتون. ويكفي أن نشير إلى بعض الأدعية التي كان المصريون يتوجهون بها إلى ذلك الإله "ما أجمل مطلعك في أفق السماء.. أي أتون الحي، مبدأ الحياة.. فإذا ما أشرقت في الأفق الشرقي.. ملأت الأرض كلها بجمالك.. إنك جميل، عظيم برَّاق، عالٍ فوق كل الرؤوس... أيها الإله الأوحد الذي ليس لغيره سلطان كسلطانه.. يا مَنْ خلقت الأرض كمن يهوى قلبك.. حين كنت وحيدًا... أنت مُوجِد النيل في العالم السفلى.. وأنت تأتى به كما تحب.. لتحفظ حياة الناس.. ألا ما أعظم تدبيرك.. يا رب الأبديّة!..."

أمثال هذه النصوص دفعت بعض العلماء الغربيين إلى القول بأن عقيدة التوحيد بدأت من الملك أخناتون، وأن العبرانيين تأثروا بها من خلال موسى الذي كان أحد قادة أخناتون، كما يذهب إلى ذلك عالم النفس المعروف سيجموند فرويد.

وقد أشار القرآن إلى معرفة المصريين القدماء لعقيدة التوحيد من خلال خطاب أبناء يعقوب للعزيز عند مقدمهم إلى مصر طلبا للطعام {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين} [يوسف: 88].

وإلى جانب عقيدة التوحيد، سبقت الأديان المصرية القديمة "الدياناتِ الإبراهيميةَ الثلاث"، من حيث الإيمان بالبعث والحساب والحياة الأخرى بعد الموت. وقد جاء في "كتاب الموتى" ما يؤكد إيمان المصريين القدماء بالحياة بعد الموت، وهو النص التالي الذي يتحدث عن دفاع الميت عن نفسه بعد موته "السلام عليك أيها الإله الأعظم إله الحق. لقد جئتك يا إلهي خاضعا لأشهد جلالك، جئتك يا إلهي متحليًا بالحق، متخليًا عن الباطل، فلم أظلم أحدا ولم أسلك سبيل الضالين... وما قتلت وما غدرت، بل وما كنت محرِّضا على قتل، إني لم أسرق من المعابد خبزها، ولم أرتكب الفحشاء ولم أدنس شيئا مقدسا، ولم أغتصب مالاً حرامًا ولم أنتهك حرمة الأموات، إني لم أبع قمحًا بثمن فاحش ولم أغش الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمت بريئا من الإثم، فاجعلني يا إلهي من الفائزين."

كما آمن المصريون القدماء بأن الحساب في الحياة الأخرى سيكون من خلال ميزان يوضع فيه "قلب الميت في كفة، وتوضع ريشة من الإلهة "ماعت" في الكفة الأخرى. فإذا رجحت كفة قلبه يدخل الفردوس، وإذا رجحت كفة الريشة يدخل الجحيم". وقد أشار القرآن إلى إيمان المصريين القدماء بعقيدة البعث بقوله: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر: 32]. و"يوم التناد" هو اسم من أسماء يوم البعث في القرآن.

ومن المعتقدات المصرية التي أشار إليها القرآن، إيمانهم بالملائكة كما جاء في وصف النسوة لجمال يوسف عليه السلام {مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، وبحرمة الزنى وعقوبته عند المصريين {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيم} [يوسف: 25]، وبحرمة السرقة في قوانينهم وشريعتهم {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين} [يوسف: 75].

وإلى جانب هذه المعتقدات والوصايا، أشار القرآن إلى وجود قيم أخلاقية راقية عند المصريين القدماء، كما في إكرام العبيد (يوسف: 21)، والحث على إيفاء الكيل (يوسف: 88)، والدفاع عن حرية المعتقد {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّه} [غافر: 28]، وتقدير أصحاب الكفاءة وجعلهم في أعلى المناصب دون النظر إلى أصولهم العرقية أو العقدية {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]، والسعي إلى العدل وتبرئة المظلومين {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفسِه} [يوسف: 51].

واليوم، وأمام الاكتشافات الأثرية المذهلة التي كشفت عن عجائب الحضارة المصرية القديمة، التي امتدت في عمق التاريخ لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، وبهرت عقول العلماء في شتى المجالات، ما يزال الكثيرون ينظرون إلى هذه الحضارة على أنها مجرد دولة فرعونية وثنية ظالمة، استنادًا إلى أفهام مبتورة للنص الديني. وأمام هذا التباين تبرز أمامنا إشكاليات مؤرِّقة، تُؤْذِن باستدامة حالة الشعور بانفصال النص الديني عن الواقع التاريخ، ما دام التراث التفسيري غير قابل للمراجعة والتطوير.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive