الرجوع

تَعدُّد الألفاظ والمعاني في القرآن

الخميس

م ٢٠١٩/١٠/١٠ |

هـ ١٤٤١/٠٢/١١

شكّل القرآنُ ثورةً لغويَّةً للعرب. ولمَّا ارتكز في مخاطبته لهم على التَّأثير البيانيِّ؛ فقد شحذ قرائحهم لتوليد معناه، وكان للتَّحوُّلات السِّياسيّة والاجتماعيّة الَّتي حصلت بعد وفاة النبيِّ محمَّد، أثرٌ كبير في حاجتهم إلى استثارة لغة القرآن وتوليد معانيها. وبذلك، نشأ علم التَّفسير ومَناهجُه. ما أريدُ طرحه هنا، هو أنَّ للقرآن لُغتَه –ما قبل التفسير– الَّتي تَحمل خاصِّيَّة التَّعدد في ألفاظه ومعانيه. ولكي نقرأها، علينا أن نَرجع إلى القرآن لحظة تَنزُّله. فهناك فارق بين معاني الألفاظ في تلك اللَّحظة وما حُمّلت مِن مَعانٍ، بسبب الظُّروف الَّتي مرَّ بها المسلمون، سَواءٌ أَصِرَاعًا سياسيًّا وعسكريًّا كانت، أَمْ جِدالًا مَعرفيًّا وفكريًّا، أمْ تَطوُّرًا طبيعيًّا في الحياة. لِلوقوف على هذا التَّعدُّد في القرآن لحظة تَنزُّله، علينا أن نقرأه بِناءً على ثلاثة مُرتكَزات أساسيّة، هي: - المعنى السَّائد في المجتمع العربيِّ زمن نزوله، قبل تَطوُّر معاني الكلمات بمرور الوقت. - سِياق وُرود الكلمة في النَّصِّ القرآنيِّ، كالسُّورة أو المَقطع المكتمل منها. - مُراد القرآن، وهو هداية النَّاس إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعمَلِ الصَّالحات، ويَدخل فيها الأخلاق. لنأخذ على ذلك مثالًا: كَلِمَتا "الحَيَّة" و"الثُّعبان"، كِلْتَاهما تَحْملان معنًى واحدًا، وهو الحيوان السَّامُّ الزَّاحف -غالبًا- على بطنه، وهو لا يزال معروفًا حتى اليوم باللَّفظَين. وقد احتفظَت له اللغة بألفاظ أخرى أيضًا؛ ما يقُودنا إلى الجدل التَّفسيريِّ: هل يوجد في القرآن تَرادُف؟ نعم، يوجد فيه ترادُف. فإِنْ أخذنا الكلمة بنفسها مستقلَّة عن سياقها، نَجِد أنَّ "الحَيّة" هي "الثُّعبان". لكن، مِن حيث تَمَوضُع الكلمة في السياق، نجد بينهما فارقًا بلاغيًّا ودلاليًّا. في سُورتَي الأعراف والشعراء، كان غرضُ القرآن الدَّلالةَ على أنَّ النَّبيَّ موسى، قادر على أن يأتي بآية من عند الله لا يستطيع عليها فرعون. وقد ناسَب ذلك أن يأتي بكلمة "الثُّعبان"، وهي من "ثَعَبَ". و"الثَّعْبُ" كلمة تَحمل معنى الحركة السَّريعة في المجرى الضَّيّق. وهو مَقامُ تَحدٍّ لفرعون، وفيه أيضًا إلقاء الرُّعب في قلبِه، قال الله: {قالَ إنْ كنتَ جِئتَ بآيةٍ فَأْتِ بها إنْ كنتَ منَ الصَّادقينَ، فألقى عصاهُ فإِذَا هيَ ثُعبانٌ مبينٌ}، وأيضًا {قالَ فأتِ به إنْ كنتَ منَ الصَّادقينَ، فألقَى عصاهُ فإذَا هيَ ثُعبانٌ مُبينٌ}. كان الوضع مختلِفًا في بداية نُبوَّة موسى، حيث أراد الله أن يُدَرِّبَه على مواجهة فرعون، فيُزيل عن قلبه الخوف مِن تَحوُّل العصا إلى الكائن الزَّاحف السَّامّ. فناسَب أن يأتي بكلمة "حيَّة"، ليقول له بأنَّ هذا الحيوان المتحوِّل من العصا، ليس مميتًا لك، بل يَحمل لدعوتك معنى الحياة. وهي المناسِبة لتطمين موسى من الخوف، إذ قال الله: {ومَا تِلكَ بيمينِكَ يا مُوسَى، قالَ هيَ عصَايَ أتوَكَّأُ عَلَيهَا وأَهُشُّ بهَا علَى غنَمِي ولِيَ فيهَا مَآرِبُ أخرى، قالَ ألقهَا يا مُوسَى، فألقَاهَا فإذَا هيَ حيَّةٌ تسعَى، قالَ خُذهَا ولَا تخَف سنُعيدُهَا سيرتهَا الأُولَى}. إنَّ كِلَا اللَّفظَين والمعنيَين، ينبغي أن نقرأهما في السِّياق الكلِّيِّ للهداية الرَّبَّانيَّة، الَّتي ليس غرضها سَوق القصَّة لذاتها؛ وإنَّما لهداية النّاس إلى الإيمان بالله وتوحيده، في مجتمع توجد فيه قصص الأنبياء عبْر كُتُب بني إسرائيل، لا سيّما التَّوراة. اللَّفظ رهين زمانه، إلَّا إن كان متحرِّرًا منه، فيكُون معناه مطلَقًا. فأمّا إنِ احتوى على زمان صُدوره، فهو مقيَّد به ولا يتعدَّاه. وحمْلُه على معنًى آخَر أنَّما هو مقصود من المفسِّر، وليس من القرآن. فعبارة "أهل البيت" –مثلًا– تعني أصحابَ البيت، حالَ نزولِ الخطاب، سواءٌ أَمِنَ النِّساء كانوا كالزَّوجات والبنات، أَمْ مِنَ الرِّجال. أمَّا بعد انتهاء ذلك البيت بموت مَن نزل فيهم الخطاب، وفي مقدَّمتهم النَّبيُّ المخاطَب، فلا يصبح للأهل وُجود؛ لأنَّ أصحاب البيت المقصودين قد انتَهَوا. قال الله: {رحمَةُ اللَّهِ وبرَكَاتهُ عليكُم أَهلَ البيتِ}. فالمقصود إبراهيم ومَن معه في بيته. وأمّا بعد مَوتهم، فينتهي مفهوم البيت الإبراهيميِّ. وبذلك، لم يعُدْ هناك وُجود لأهله. وأيضًا في قول الله: {إنَّما يُريدُ اللَّهُ ليُذهِبَ عَنكمُ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ ويُطَهِّرَكُم تطهِيراً}. فلا وُجود للبيت النَّبويِّ بعد النَّبيِّ محمَّد وأهله، ولا يَطَّرِد معنى "الأهل" إلى مَن بعْدَهم. وكلُّ ما ورد من تفاسير بعد ذلك فهو مذهبيٌّ، أو لأغراض أخرى. ولا تَرادُف بين "الأهل" و"الآل"؛ إذْ لكلٍّ منهما معناه، المرتبط بمَقصده وزمانه ومكانه.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive