الرجوع

حين يسجد القلب لله

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٥/٠٥ |

هـ ١٤٤١/٠٩/١٣

قد تتشابه نتائج الدّراسات المَيدانيّة، التي تَرصد واقع مُمارسة المُسلمين/ات للصيام في أوروبا، حيث يَخلُص جُلُّها إلى نقطة مُشتركة، ربَّما تكون تعبيرًا صادقًا، عن وضعٍ يتكرّرُ أيضًا في مُعظم المجتمعات المُسلمة.

يتعلَّق الموضوع بارتفاع نِسبة ممارسة المسلمين/ات للصيام، مُقابل عدد المُمارسين/ات للصلاة، حيث تُظهِر دراساتٌ في ألمانيا مثلًا: أنَّ قُرابة 75٪؜ من المُسلمين/ات يُواظبون على الصيام في رمضان، في حين لا تتجاوز نسبة المواظبين/ات على الصلاة المكتوبة 20٪؜. فيُفرِّق عُلماء الاجتماع الديني -في مثل هذا السياق- بين الشعائر الجماعية والفردية. وقد لاحظوا أنَّ مُمارسةَ الصيام أكثر من الصلاة، ظاهرةٌ يمْكن تَتبُّع ما يُشبهها في جميع الشعائر. فمثلًا: الذين يُصلُّون الجمعة في المساجد، أكثَرُ بكثير من أولئك الذين يواظبون على الصلوات اليوميّة المفروضة، ونِسبة مَن يُصلي العيد أكبَرُ مِن نسبة الذين يُصلُّون الجمعة.

اليوم، جاء الحظر المنزلي بسبب الكورونا، ليُحوِّل بعض المُمارسات الدينية الجماعيّة إلى ممارسات فردية. فعادةً ما يستضيف بعضُ الناس بعضَهم في رمضان، أكثر من أيِّ شهر آخر. وقد تَعوَّد الكثير منهم الإفطارَ الجماعيّ مع الأقارب والجيران والمعارف، ورُبّما السُّحور الجماعيّ أيضًا، فضْلًا عن اللِّقاءات الاجتماعية في ليالي رمضان. كذلك تَعوَّد آخرون أداء صلاة التراويح في المساجد. أمَّا في رمضاننا هذا، فلا دعوات إفطار، ولا مساجد مفتوحة، ولا جمعة ولا جماعات.

إنَّ هذا الوضع الذي نعيشه اليوم، يُعَدّ فرصة لإعادة النظر في مُمارساتنا الشعائرية، حيث إنَّ سبب ارتفاع نسبة ممارسة الشعائر الجماعية، هو لِكَونها تُعزِّز الانتماء الجمعي من جهة، إذ يَمنح الشخصَ الإحساسَ بأنَّ التزامَه المُمارسةَ الجماعيّة، تأكيدٌ لوعيِه الذاتي بِتبعيَّته لهذه الجماعة، وهو نوع من الشعور الداخلي بتجديد الولاء لها والتَّماهي معها. ومن جهة أخرى، تَخضع الشعائرُ الجماعية لنوع من الرَّقابة الجمعية، التي تُجْبر صاحبَها على التزامها، حيث لا يكُون الالتزام عن قناعة دائمًا، بل مُحاباةً لعادات المجتمع وتقاليده.

تَكمن المُشكلة في أنه كلَّما وُظِّفَت الشعائر الدينيّة لتأدية وظيفة اجتماعيّة مُعيّنة، يزداد تفريغها برأيي من معانيها الروحية والأخلاقية. فتُصبح تلك الوظيفة الاجتماعيّة أو النفسيّة، هي الهدف الأساس عند المؤمن، سواءٌ واعِيًا كان بذلك أمْ غافلًا عنه. لكن الظَّرف الذي نمرُّ به اليوم، يفتح أمامنا الطريق إلى فهم أعماقنا بشكل أوْضَح. فربَّما شعر أحدُنا بالحُزن لعدم تَمكُّنه من الإفطار مع أصدقائه ومعارفه، وربَّما شعر آخَر بالحزن لعدم تَمكُّنه من أداء صلاة التراويح في المسجد، وقد يشتكى ثالث من افتقاده الجوَّ الرمضاني المعتاد؛ إلَّا أنَّ كُلًّا منهم يُعلّل حزنَه تعليلًا دينيًّا، يَكمن في افتقاده رُوحَ الصيام.

الإشكال ليس في بناء شبكة اجتماعية والمحافظة عليها، بل في أن يُصبح الحفاظ على هذه الشبكة هو هدف الصائم أو المُصلِّي في المسجد، معتقِدًا في خَلَدِه أنَّ تَعلُّقه بالمسجد أو برمضان، نابعٌ مِن نازعٍ دينيٍّ محض.

أَودُّ أنْ أُشير هنا إلى أنَّ طُغيان الوازع الاجتماعي أو النفسي على الدِّيني، يُفرِّغ الصيام من معانيه الروحانية. فشهر رمضان هو شهر الارتحال إلى الأعماق، وقضاءُ ساعات عُزلةٍ لا يجالس فيها المؤمن سِوَى نفسه وربِّه، بقلب الجائع العَطِش (أيْ بقلب مكسور)، يَعِي ضعفه وفناءه. إنَّ هذا القلب سيسجد لله سجود الخاشع، وينطلق بعد ذلك حتى يقابل الدنيا بقلبٍ مُحبّ، ناتج من ذلك الخشوع الأول. فيتمنَّى الحُبَّ والسعادة للقريب والبعيد، وللمؤمن ولغير المؤمن؛ إذ هو قلبٌ ربّانيٌّ تَخلَّص من كلِّ معاني الأنانيَّة والكِبر والكراهِيَة والحسد، قلبٌ أعلَن مسامحته لكلِّ مَن أَغضَبه أو جرَحه في يوم ما، قلبٌ يُشعّ بنور الله. إنه القلب الزّكيّ الطاهر: {قد أفلحَ من زكَّاها}، {يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلَّا من أتى اللَّهَ بقلبٍ سليمٍ}.

تزكية القلب هي المقصد الأعلى للتَّديُّن، لكنها عملية شاقة؛ إذ هي التي وصفها النبي عليه السلام بالجهاد الأكبر. إنها في حاجة إلى أوقات عُزلة عن الخَلق، يَسكن فيها كلُّ صَوت سِوَى صوت القلب المنكسر، المنادي ربَّه بتضرّع وخشوع، لا خوفًا من مُحبِّه، بل إجلالًا لعظيم رحمته، التي بها أحبَّنا الله قبْل أنْ نُحبَّه: {يحبهم ويحبونه}. في هذه العزلة، سوف تتجلَّى للإنسان معاني الرحمة والمحبة الإلهية، ليَشعر بها وهي تَحضن وِجدانَه، وتهزّ كلَّ ذرَّة فيه: {إن الذين أوتوا العلم من قبلهِ إذا يتلىٰ عليهم يَخِرُّونَ للأذقانِ سجَّدًا، ويقولون سبحانَ ربّنا إن كان وعد ربنا لمفعولًا، ويخرُّونَ للأذقانِ يبكون ويزيدهمْ خشوعًا}. العزلة فرصة ليَنبض القلب مُخلصًا بحبِّ الله وإجلاله، حتى يكُون ممَّن يُظلُّهم الله، كما جاء في الحديث الشريف: "ورجُلٌ ذكر اللهَ خاليًا ففاضت عيناه".

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive