الرجوع

في ضياع المفكّرين واستحالة الجمع بين الطائفية والمواطنة

الخميس

م ٢٠١٧/٠٦/١٥ |

هـ ١٤٣٨/٠٩/٢١

يبدو أن الفكر المتطرّف بدأ ينتصر، ليس بقدرته، بل بانهزام عدد من "المفكرين" أمامه وتبنيهم منظومته الإيديولوجية، إن بطريقة غير مباشرة أو نتيجة ردة فعلهم العكسية. لقد اطلعت في الأيام الأخيرة على مبادرة يعمل عليها نخبة من أصحاب الفكر والمنخرطين في الشأن العام في لبنان، من مختلف الخلفيات الدينية، أكثر ما يجمع بينهم هو عدم ارتباطهم بأي مرجعية سياسية ذات منحى طائفي. تهدف هذه المبادرة إلى تقديم خارطة طريق تنتقل بلبنان من النظام الطائفي إلى الدولة المدنية. تنطلق المبادرة من اعتبار النظام العَلماني الشامل، الذي يمنع التعبير عن الاختلافات الثقافية والطائفية وهواجسها، قد يُفضي إلى خطرين: الأول، وقوع النظام السياسي تحت هيمنة الأكثرية؛ والثاني، اعتماد المجموعات الطائفية أساليب متطرفة للتعبير عن مواقفها.

أَتَّفق مبدئيًّا مع أصحاب المبادرة على أنّه لا ضير في الجمع بين حقوق المواطنين دون أي تمييز في ما بينهم، وتأمين ما يسمونه "ضمانات محقّة" للجماعات، كما عبّرتُ عن ذلك في مقالي الأسبوع الفائت. لكن المشكلة تكمن في ما يسمّونه "الضمانات"، ما يعني أنها مبنيّة على الخوف على هذه الجماعات من جماعة أو جماعات أخرى. فعندما تغيب الثقة بين المواطنين، ويجري التعميم في ما يتعلّق بمصدر الخطر أو التهديد، ويصبح مرتبطًا بجماعة بأسرها وليس بأفراد، وبانتماء وهوية جماعية وطائفية، وليس بموقف إيديولوجي أو تصرف خارج عن الأخلاق والقانون، تنهار مقوّمات المنظومة السياسية بذاتها، ويصبح من المستحيل تحقيق الترابط الاجتماعي، والوحدة الوطنية، وقيام الدولة العادلة.

المطلوب في هذا المضمار التوضيح المزدوج التالي: أولًا، بقدر ما يجب الاعتراف السياسي بالتنوّع الثقافي والإثني والديني في المجتمع، لا يجوز أن تُصبح الجماعات الثقافية أو المكونات كيانًا وسيطًا بين الفرد والدولة. فانتماء الفرد السياسي إلى الوطن يختلف بطبيعته عن انتمائه الطوعي أو الطبيعي إلى جماعة ثقافيّة معيّنة، كالعائلة، أو الدين، أو الجماعة الإثنية، أو الجمعيّة، إلخ. وتصبح حريّة الفرد مهدّدة، ودوره السياسي فارغًا من المعنى، إذا عبّر المواطن عن انتمائه إلى الدولة ومارسه حصرًا عبر جماعته الخاصة. فالوطن هو جماعة المواطنين، وأساس ضمان حقوقهم وحرياتهم المرتبطة بشخصهم الفردي، ولا يمكن أن يكون نتيجة ائتلاف الجماعات الخاصة.

أما التوضيح الثاني فيكمن في ضرورة الانتقال من المطالبة بضمانات للجماعات الخاصة، إلى المطالبة بمساحة للمشاركة لهذه الجماعات في الحياة الوطنية، على قاعدة امتلاك كل جماعة خصوصية ثقافية هي حاجة للمجتمع وإثراء للوطن. فتصبح مقاربة التعددية الثقافية هنا مرتبطة بالافتخار بما لدى الجماعات المختلفة من خصائص تغني المجتمع، بدل أن تكون مبنية على الخوف المتبادل بين هذه الجماعات من تهميش أو إلغاء بعضها لبعض. تتطلب هذه المقاربة نضجًا ثقافيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا، واستقرارًا أمنيًّا، وحدًّا أدنى من الثقة والترابط الاجتماعي بين المواطنين لكي تحقّق غاياتها، وبذلك يغتني المجتمع بتفاعل مكوّناته الثقافيّة، عبر حركة الأفراد الوطنيّة العابرة لانتماءاتهم الخاصة.

يبقى السؤال الأصعب في هذا السياق تحديد نوع مشاركة الجماعات في الحياة العامة، دون أن يشكّل ذلك استئثارًا أو عقبة أمام مشاركة المواطنين المباشرة والحرّة. فإذا طُرح ذلك على مستوى المحاصصة في السلطة السياسيّة على أساس طائفي، تكون نتيجته تحويلَ مشاركة المواطنين في الحياة العامة إلى تبعيّة لزعماء طوائفهم، وتعميمًا للزبائنيّة، وإفسادًا للإدارة، وغيابًا للمحاسبة. والواقع السياسي الحالي في لبنان يشكل خير دليل على ذلك. أما إذا طُرحت مشاركة الجماعات على المستوى التشريعي -كما يعتبر بعضهم أن ذلك ممكن أن يتحقق من خلال مجلس شيوخ يمثل الطوائف-، فالخوف أن تمتلك الجماعات حق "الفيتو" في وجه حقوق الأفراد ببعدها العالمي الشامل، مثل حقوق الطفل والمرأة وغيرهما.

لا بدّ أيضًا عند البحث في هذا المضمار، من أخذ الواقع الاجتماعي والديمغرافي لكل بلد، وتاريخه وثقافة أبنائه السياسية، بالاعتبار. فالجواب عن مشاركة المكونات السياسية هو حتمًا سياقي، وتختلف معالمه بين الواقع اللبناني، والمصري، أو العراقي، إلخ. لكن تبقى القاعدة المشتركة، وهي أنّه إذا كانت الطائفيّة مبنيّة على أساس الحذر أو الخوف المتبادل بين مكونات المجتمع، فدولة المواطنة -ولا يكفي هنا الحديث عن الدولة المدنية- يجب أن تُبنى على مبدَأَي المشاركة والشراكة في الحياة العامة. أما موقف "المفكِّرين" المضطرب، فينمّ بخلفيّته على شكّ وربما يأس مزدوج: من الديمقراطية من جهة، ومن انسجام الإسلام مع دولة المواطنة من جهة أخرى. وفي كلا الأمرين رجوع مستغرب إلى ما قبل السياسي. وكأنّه اعتراف خطير، ليس بفشل التعامل مع الاختلاف وحسب، بل باستحالته في بعض الحالات.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive