مقالات

يشكك بعض الناس اليوم في لفتة الإفطارات الرمضانية العامة في دُور العبادة، حيث يرون فيها طريقة إلى بسط سيطرة طرف على آخر، أو بالحَرَى سيطرة "المسلمين" على "المسيحيين". ولا تنجو هذه الحركة المتفانية من انتقادات متطرفة تَعتبر أنّها تمثل انتصارًا لدين على آخر. غير أن الاجتماع على مائدة الإفطار، بصرف النظر عن الهوية الدينية للأشخاص المجتمعين، يشكل مساحة للتلاقي والتعارف والتضامن، ويقدم نموذجًا من الأخوة الانسانية.

شهدنا في الأيام الماضية إفطارات مماثلة حول العالم في الكاتدرائيات والأماكن العامة، وتحديدًا في بريطانيا، التي تميزت هذا العام أول مرة بزينة "شهر رمضان" في ميدان بيكاديلي. تلقَّف المسلمون هذه المبادرة التي منحتهم الشعور بالفرح تجاه الاعتراف العلني، في حين صارت الساحة مقصدًا للعديد من الناس، أَمُسلمِين كانوا أم مؤمنين بديانات وعقائد أخرى. لم يكن هذا الحدث أمرًا عابرًا، إذ إنه قدم معاني حيوية تؤكد مدى أهمية حرية الدين والمعتقد، وممارسة هذه الحرية وانعكاسها على الروابط المجتمعية. فهو بمنزلة احتفال بالتنوع الديني، وتركيز على أن التنوع الديني يساهم في إغناء الثقافة المحلية، ويزيد من روح التضامن داخل المجتمع، من دون إجبار الفرد على طمس هويته، أو على إلغائها لخدمة الطرف المسيطر.

إن إيجابية الممارسة التي لا تحُدُّها قيود اعتباطية، لا تؤثر في المؤمنين بهذه العقيدة فحسب، وإنما في صحة المجتمع بكماله. فقبول قناعة الشخص ورأيه الخاص، وتسهيل عملية تعبيره عن هذه القناعة، يدفعان به إلى الشعور بالانتماء، ويشجعانِه على التعرف مجددًا وعن قرب إلى الآخر، الذي لا يشكل تهديدًا له، بل يُعتبر مكونًا رئيسًا ومكملًا لتجربته الحياتية. ومِن ثَمّ، كل مبادرة اجتماعية دينية تجمع الأفراد من ديانات مختلفة، تقدم خطابًا متقدمًا لمواجهة محاولات التفرقة والتطرف. وهذا الخطاب الذي ينبذ الاختزال والاقصاء، هو رافعة لتكريس السلام والأمن.

الالتفاف حول مائدة الافطار، هو أشبه بالالتفاف حول مبادئ وقيم مشتركة، وهو تحدٍّ راقٍ وتفاعلي لِلمواقف التي تروِّج للتكفير على أساس الاختلاف. فالاختلاف يمثل نقطة التلاقي والتبادل، والتطلُّع إلى الوجود باعتدال، بعيدًا عن التحيز. على سبيل المثال: انطلقت مبادرة الإفطار الرمضاني في جامعة لندن ((SOAS في العام 2013، بهدف مساعدة الطلاب الأجانب على الاندماج في الجامعة، والشعور بالطمأنينة بعيدًا عن أهلهم في الوطن. وسرعان ما تحولت هذه الحركة الطلابية إلى مبادرة وطنية شاملة لمساعدة المحتاجين. واللافت في هذه الحالة، أن القيم الدينية الإيجابية لا تستهدف حصرًا المنضوين تحت إيمان معيَّن، وإنما تمثل حاضنة للأفراد جميعًا على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم. فمساعدة الآخر ليست قيمة خاصة، بل هي مبدأ إنساني وعالمي سامٍ يجب أن تجتمع من أجله الأديان.

"صار في بَيْناتنا خبز وملح"، هذه العبارة التي نتخذ فيها الطعام مثلًا لتشبيه مدى متانة العلاقة بين الأشخاص، إن دلت على شيء، فهي تدل على تحول الطعام من حاجة أساسية للعيش والنجاة، إلى نشاط تبادلي للتواصل والانفتاح على الآخر. فتأتي مثل هذه المبادرات لتؤكد أن العزلة الدينية قابلة للكسر، ما دام هناك نظام علماني يحترم الفرد وقناعته ويحميه. فالعلمانية، على عكس المفهوم الخاطئ والشائع الذي يراها نقيضًا للإيمان، هي برأيي نمط حياة يقوم على احترام الآخر كما هو، وعلى عدم تكريس الانحياز الديني لمصلحة أي طرف، وأيضًا يقوم على تأمين التوازن في التمثيل والمعاملة والتقبل. العلمانية ذاتها التي قوبلت بالرفض في مجتمعاتنا نظرًا إلى إساءة فهمها، تقوم في جوهرها على حماية المؤمنين بدين ما من الاضطهاد، باعتبار أن حرية الدين والمعتقد حق لا يمكن تجزئته.

صدح أذان العشاء من كاتدرائية مانشستر، ورفع مرة أخرى في كاتدرائية "دير اللاتين" في الأردن في الأسبوع الثاني من شهر رمضان هذا العام. اجتمع المسلمون والمسيحيون على مائدة واحدة. اتصل الإنسان بالإنسان، وتكلَّما بمحبة. ليس مشهدًا تمثيليًّا كما قد يؤوِّله بعضهم، وليس انبهارًا بالمثاليات المستحيلة، ولكنه موعظة بأن الخير يجد دائمًا سبيله في الوجود. فالاستعداد الفطري لدى الإنسان يميل نحو الخير في أغلب المواقف، لكنه في نهاية المطاف يحتاج فيه الفرد نفسه إلى أن يستمد قوته من مجموعات لا تختلف معه في جزئية العطاء. وهذا ما أثبتته المناسبات الرمضانية وغيرها من الأعياد، التي يتبادل فيها الناس خيرهم ومحبتهم (كذكرى ولادة المسيح مثلًا). فالفرح للجميع، وهو صلة التغيير الإيجابي بين الحاضر والماضي بما حمل من معاناة. وتغدو هذه المناسبات مثالًا مغايرًا وسلميًّا، يتعالى على كل نزاع، وتفاوت، وانقسام.

تكمن جمالية هذا المشهد أيضًا، في التركيز على أن الدين لا يفصل الإنسان عن الانتماء إلى وطنه وإنسانيته، وعلى أن "وثيقة الأُخوة الإنسانية" للبابا فرنسيس والإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب، هي مرجع رئيس يُحتذَى به، لِما تحمله من وحدة ومثال على أن العالم على اختلاف شعوبه، هو أقرب ما يكون إلى أسرة واحدة. إن هذه الإفطارات الرمضانية التي تحتضنها الكنائس، هي ترجمة لما نصت عليه هذه الوثيقة، بتجلياتها التي شملت قبول الآخر، والاحترام المتبادل، والحوار.