الرجوع

الحياة بين التنوع والتنافر

الخميس

م ٢٠٢٢/٠٣/١٠ |

هـ ١٤٤٣/٠٨/٠٧

"زمن الصدام" أو "زمن الحوار"، جدلية ساد النقاش حولها مطلع الألفية الثالثة. ودومًا كان التنوع والاختلاف أمرًا واقعًا، وهو ما فرض هذا النقاش وأجَّج الحوار حول القضية. فإن كان "هنتنغتون" مؤلف كتاب "صدام الحضارات" سنة 2012، يشدد على أن الصدام هو الذي يحكم العلاقات بين البشر والحضارات بصفتها وحَدات ثقافية متنوعة، فإن "غارودي" مؤلف كتاب "حوار الحضارات" سنة 1999، يؤكد -على العكس من ذلك- أن الحوار هو الذي يبني الحضارات.

تظهر هنا الجدلية بوضوح أكثر، في رؤية القضية من وجهة ثقافية تقوم على الكره أو الحب. فالصراع قائم حول ضرورة الحفاظ على الذات، والتي تؤدي في كثير من الأحيان  إلى نكران الآخر المختلف. فهل هذا النكران يعدّ أمرًا طبيعيًّا، ومِن ثَمّ لا يمكن التأثير فيه وتعديله؟ وإنْ كان طبيعيًّا، فهل يكون قبول الآخر خدعة يقوم بها الإنسان ليحمي نفسه من خوفه من الآخر؟ 

حماية الذات والحفاظ على البقاء، هما السببان الأساسيان، اللذان يؤديان إلى الصدام والصراع بين الإنسان والإنسان. وهذا ما يؤكده "فرويد" بتبنِّيه لمقولة هوبس: "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان". فالإنسان محكوم بغريزة بقائه، وبالدفاع عن نفسه، فهو "ينزع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب الآخر" (Freud, 1971). وكله متعلق بالأنانية، التي هي أصل كل ميوله، والتي تحكم سلوكه. وهكذا هي مظاهر العنف، مثل: التمييز العنصري (الأبرتهايد) في جنوب إفريقيا، والعنف الممارس ضد مسلمي الإيغور في الصين، والممارسات العنفية في أفغانستان وباكستان، وفي العراق وسوريا ولبنان. والكثير من البلدان ليست في كثير من الأحيان إلا ترجمة لهذا المبدأ: "فعلى الدوام، الآخَر المختلف هو عدوِّي". 

الإنسان الآخر شرط لوجودي، وشرط لمعرفتي ذاتي وهويتي؛ إذ يؤكد "سارتر" أن الإنسان محكوم بالانفتاح على الآخر، وأثناء هذا الانفتاح: "يصبح اكتشافي لدواخلي هو في الآن نفسِه اكتشاف للآخر" (sartre, 1966). يرفض سارتر فكرة أن الإنسان منغلق على ذاته، مقرِّرًا أن التفكير في الأنا الديكارتية أو الكوجيتو الديكارتي: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"، هو انغلاق للذات على الذات في تأمل للأنا ووعيٍ بها، بدون الأخذ بعين الاعتبار لوجود الذوات في الخارج. وهكذا، فإن الشعور بالأنا يقابله شعور بالآخر. وهكذا أيضًا كان للإغريق أجانبهم، ونحن كان لنا أعاجمنا، وهناك الـ"نحن" والـ"هم"...

هذه الجدلية تأخذ منحًى آخر في التقليد الإسلامي، حيث يشدد الإسلام في تعاليمه على ضرورة الدفاع عن النفس، وردِّ الثأر بالمثل. وفي نفس الوقت يشجع على التحاور والتصرف بشهامة، مع التركيز على تفضيل العفو والصفح. ولا يوجد تبرير للعنف إزاء الآخر، إلا عنف الآخر إزاء الأنا. من هنا، كان التشديد على وحدة الأصل، واختلاف التجلي، في تنوعٍ فعَّال، وفَلاحِ مُتَّقٍ: {يا أيُّها الناس إنَّا خَلقناكم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجعلناكم شُعوبًا وقَبائلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أَكْرمَكم عِند الله أَتْقاكُم} [الحجرات: 13]. إن اختلاف اللسان، واختلاف الألوان، واختلاف الأعراق والأجناس والمعتقدات، كلها سنن الله في هذا الوجود: {ومِن آياته خَلْقُ السماوات والأرضِ واختلافُ ألسنتِكم وألوانِكم} [الروم: 22]. فالاختلاف والتنوع، سُنَّة من سنن الله، وقانون إلهي في الخلق. 

وهذا بالضبط ما تشدد عليه المسيحية، من ضرورة نشر الدعوة بين الأمم. فبعد أن ساد اعتقاد بحصرية الخلاص في شعب بعينه، أصبح المسيحيون يؤمنون بإله لجميع الناس: "فاذهَبُوا وتَلْمِذوا جميع الأمم وعمِّدوهم بِاسم الآب والابن والروح القدس" (متى 28: 19). ونلتقي هنا مع "غاندي" في تشديده على أن علوَّ مقام شخص، لا يُستمد من أصل مولده ولا من وفائه لشعار ما، إنما: "العامل الوحيد المحدد هو الطريقة التي نتصرف بها" (Gandhi,1969)، لأن التنوع والاختلاف، الذي هو سمة الوجود الإنساني، ليس مبرِّرًا لانسلاخ الذات عن هويتها التي تميزها، "فالله لم يخلق البشر موسومين في البدء بعلامة رفعة أو وضاعة" (Gandhi, 1969). 

البشر متساوون في الخلقة والتكوين والكرامة الوجودية، والتفاعل فيما بينهم سنّة وضرورة إنسانية، ليكون التواصل مع الآخر أساس العلاقة به، ويكون التنوع مع الخصوصية سمة لحياة الإنسان الاجتماعية. فالتنوع هنا يصبح منفتحًا على الآخر، وهذا هو الفلاح. 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive