الرجوع

تأملات أليمة في العبودية والاتجار في البشر

الجمعة

م ٢٠٢٢/٠٧/٢٩ |

هـ ١٤٤٤/٠١/٠١

قد يبدو غريبًا التكلم اليوم على العبودية في القرن الواحد والعشرين، لكن المتأمل والمتابع لسلوكيات المجتمع المعاصر، يلاحظ أولًا أن العبودية قد أخذت أشكالًا جديدة خفيَّة في بعض الأحيان، وظاهرة للعيان في أحيان أخرى. ثانيًا إن ما يسمى بالقضاء على هذه الظاهرة لم يواكبه الاعتراف بهذا الذنب التاريخي. ولا نعثر اليوم على استيعاب ثقافة الاعتذار وطلب الصفح؛ إذ لا تزال تجارة الرقيق موضوعًا محرجًا، تطغى عليه الرقابة الذاتية والرغبة في النسيان.

أمَّا على المستوى الحقوقي، فإن مصطلح "الجرائم ضد الإنسانية" لم يتبلور إلا بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة الممارسات الفظيعة التي قامت بها النازية، في حين أن فكرة الاعتذار هي فكرة قديمة. فالحضارة الإغريقية أسست لهذا المفهوم، وأفضل من عبر عنه الفيلسوف أرسطو. ويتجلى ذلك في تعريفه المميز لمصطلح العفو العام والمصالحة، وخاصة في تحديد وظيفته الأخلاقية والمجتمعية، إذ يعتبره استعمالًا سياسيًّا للمصائب، وعلاجًا مدنيًّا للحقد والكراهية.

إننا نجد اليوم عدة مواقف تسعى إلى الاعتراف بما ارتُكب من جرائم ضد الآخرين، في مشهد فُرْجَوِيّ يسميه الفيلسوف الفرنسي دريدا "عولمة العفو". وخير مثال على ذلك: اعتذار اليابانيين رسميًّا عن حادث "بيرل هاربر"؛ واعتذار الفرنسيين عن محاكمة الضابط دريفوس، وعن مواقف حكومة فيشي المتواطئة مع النازية، إضافة إلى ملفات التغييب والتعذيب في الجزائر؛ بل إن الكنيسة الكاثوليكية قدمت اعتذارات عن موقفها القديم من اليهود، وعن نشاطاتها التفتيشية ضد حرية الفكر والمعتقد، وأخيرًا عن سياسات الإدماج القسري للسكان الأصليين في كندا. ورغم ذلك، تبقى مؤسسة الصفح والغفران وبناء الذاكرة السعيدة، من المسارات العسيرة وغير المضمونة العواقب -على حد تعبير بول ريكور-.

إن الإحصائيات حول العبودية وتجارة الرقيق، هي إلى الآن موضوع نقاش. فالأعداد تتراوح بين 14 و60 مليونًا بحسب الدراسات المختصة. والمؤكد أن تجارة الرقيق كانت من المؤسسات الهامة التي ساهمت في ديناميكية معظم المجتمعات، ومثلت المحرك الأساسي لعجلة الاقتصاد العالمي. وقد اعتمدت أساسًا على الغزو والسبي، إضافة إلى وجود شبكات مختصة في خطف الأطفال والنساء. وفي إطار استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، استعبَد  "مصاصو الدماء" فئات معيَّنة من البشرية، واستخدموهم عبيدًا وجواري في القصور، وسخروهم في مزارع القطن طوال أربعة قرون في الولايات المتحدة الأميركية، واستخدموهم في بساتين النخيل في شبه الجزيرة العربية، وأجبروهم على الغوص للبحث عن اللؤلؤ في البحر الأحمر...

في تونس مثلًا: كانت أسواق النخاسة تستقطب الزبائن من مختلف الجهات، ويشرف عليها أمناء يمثلون أصحاب المهنة، وكانت تخضع لمراقبة الدولة ولضوابطها. وكانت عملية البيع تجري بواسطة عقد ينجزه قاضٍ أو عدلٌ شرعي، يحتوي بنودًا تتعلق بجنس العبد ولون بشرته وحالته البدنية والصحية ومعلومات عن انتقاله من مالك إلى آخر.

طبعًا اختفت هذه الظواهر -على الأقل في شكلها المعهود-، لكن للأسف هناك أشكال جديدة سالبة لحقوق بعضهم، ومنتهكة للكرامة الإنسانية. فاليوم نحن أمام ما يسمى بـ"العبودية الجديدة". ووفق منظمة العمل الدولية، فإن أكثر من 40 مليون شخص هم ضحايا للرق الحديث، ويعامَلون معاملة الدواب، حيث يمارَس عليهم كل أشكال الاستعباد والاستغلال من: التسخير والعمل الجبري في البناء والزراعة والأشغال المنزلية، واستعباد المَدين، والزواج القسري، والاستغلال الجنسي القسري، وشبكات الهجرة غير الشرعية.

فمثلًا: في تونس السباقة إلى إلغاء العبودية، حيث أصدر أحمد باي الأول في 23 كانون الثاني/يناير 1846 قانونًا ينص على أنه: "لا عبودية بمملكتنا ولا يجوز وقوعها فيها، فكلّ إنسان حرّ مهما كان جنسه أو لونه ومن يقع عليه ما يمنع حريّته أو يخالفها، فله أن يرفع أمره للمحاكم" - لا تزال أشكال الاستغلال الجنسي والخدمة قسرًا والاسترقاق والممارسات الشبيهة بالرق والاستعباد موجودة، خاصة بعد توافد آلاف الأفارقة الذين يتخذون من تونس ممرًّا للهجرة إلى أوروبا.

أيضًا بقيت التصورات الاجتماعية والممارسات اللاواعية معادية للأقلية السوداء في أوطاننا، وترفض مثلًا الزواج منها. وهو ما يحتاج إلى تربية جديدة على المواطنة، وعلى المشاركة العاطفية، وعلى حقوق الإنسان في مدارسنا اليوم.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive