الرجوع

رئيس وزراء يتناول الحساء بالسكين

الخميس

م ٢٠٢٠/١٢/١٠ |

هـ ١٤٤٢/٠٤/٢٥

فكرة “المكوِّناتيَّة” خطِرة على مستقبل الديمقراطية في العالم العربي، وهدامة لفكرة الهوية الفردية والجماعية، لأنها تختزل المجتمع في مجموعة مكوِّنات. وبذلك، تقف حجَر عثْرة في مشروع تخيُّل أمَّة أو هوية مشتركة. ثم إنها تُحبط فكرة المواطَنة، بسبب اختزالها الهوية الفردية في رقم ذائب في هوية مكوِّن.

لا يقلُّ خطَرًا عنها هيمنةُ نظرية الرجل العظيم، أو عقيدة انتظار المخلِّص، أو عبادة الأبطال، إذا ما استخدمنا مصطلح “توماس كارلايل” في كتابه عن الرجال العظماء، الذين صنعوا التاريخ من خلال سماتهم الشخصية. تتعارض هذه الفكرة أيضًا مع ثقة الشعوب بقدرتها على التغيير، إذ يظل الناس يقرنون إصلاح أحوالهم بظهور “سوبرمان”، يملأ الأرض عدلًا بعد أن فاضت جورًا، في وقت كانت فيه هذه الشعوب تتحرك على مسرح الأحداث، مثل دُمًى تحرِّكها خيوط لامرئية. لكن، إنْ كانت كلتا الفكرتين (المكوِّناتية ونظرية الرجل العظيم) هدامة، وتدمِّر ما تتطلع إليه شعوب المنطقة في زمن فقدان البوصلة، ما بعد الربيع العربي، فما البديل؟

كان أكثر ما ردَّدتُه خلال السنوات العشر الماضية، قد ورد في كتاب لأمين معلوف (الهويات القاتلة)، وهو عبارة: “المقدَّس في الديمقراطية هو القيم وليس الآليات”. فالآليات أو الأشخاص لا يَبنُون “ثقة” بالنظام السياسي، لكن “المؤسسات” هي ما يُحدث هذا الأثر. وعلى حدِّ قول “صموئيل هنتنغتون” في سياق تقييمه للتجربة الأميركية: “تكمن عبقرية النظام الأميركي أكثر في مؤسساته، وأقلَّ في ديمقراطيته”. يترك هذا التحليل مثالًا لدولنا الفاشلة والمضطربة: خمسون هُوية وبيروقراطية منفصلة لا يتعارض بعضها مع بعض، وآلاف المقاطعات والبلديات التي تتمتع بسيادة قضائية خاصة، وترتيب مؤسَّسي لإدارة قارَّة بكمالها.

لماذا لم ينجح الأميركيون في إرساء مثل هذا النظام في العراق؟ لا يكمن الفشل الأميركي في العراق في الجانب العسكري فحسب، لكن جبل الجليد الغاطس يتمثل بالإخفاق في احتذاء المثال المؤسَّسي في بناء العراق، وحرْب كسب العقول والقلوب لم تتمأسس في فكرة جديرة بإنقاذ العراق، وجعلِه “دولة قابلة للحياة”. لذا، ببساطة ربحت الولايات المتحدة الحرب، لكنها خسرت السلام.

بعد أن شعر الناس بأن مهمة الإصلاح لا يمكن إنجازها من خلال التغيير من الخارج، بدأوا يشعرون بأن تحقيق ذلك ليس سوى مسؤولية، أُلقيَت على عاتقهم على نحو يعكس التغيير من الداخل. لذا، كانت دورات الاحتجاجات الجماهيرية منذ أكثر من عشرة أعوام، تعبيرًا صافيًا عن هذه الرغبة. لم تكن هناك رافعة سياسية لهذه المهمة غير المنجَزة. فكان “سِياسِيُّو المكوِّنات” مُقاوِلي هويات وليس رجال دولة. لقد فشلوا ببساطة في اختبار “تناول الحَساء بالسكين”.

“تعلم تناول الحساء بالسكين” هو كتاب الأكاديمي الأمريكي “جون ناجل” عن مكافحة التمرد في العراق، ويعكس العنوان حسًّا ساخرًا في اختلاف النظرية عن الممارسة.

في مقابل ذلك، صرَف شباب ساحات الاحتجاجات مئات الساعات في النقاش غير المجدي: هل يمكن اختيار رئيس وزراء ينجح في اختبار ساحات الاحتجاج؟ وهل يشكِّل قانونُ انتخابات جديد أو عملية انتخابية مبكرة فارِقًا؟

يبدو لي أن رهاننا خاطئ إنْ كان على استبدال سياسي بآخر، أو إنْ شعرْنا بزهو زائف في سَنِّ قانون انتخابي فحسب. فالتشريع عملية عميقة ومعقدة، وليس مجرد سَنِّ نصٍّ قد يساء تفسيره أو تطبيقه -إنِ افترضنا أهميته-. ثم إن الآلية المرتبطة به قد لا تقلُّ خداعًا أيضًا، كما يشير “د. كابلان”: “من السهل إجراء انتخابات، لكن دلالتها أقلُّ مما يعتقده الصحفيون وعلماء السياسة. فالانتخابات عملية تستغرق 24–48 ساعة… لكن الوزارة المؤهلة جيدًا يجب أن تعمل 365 يومًا في السنة… فبدون ترتيب الأساس لا يمكن أن يكون هناك حرية ذات معنى، والمؤسسات هي الأدوات الأكثر أهمية للنظام”.

هذه المؤسسات هي التي تحصِّن مشاعر الشباب في ساحات الاحتجاج، وتحوِّلها إلى “ثابت” وأثر “دائم”. ومن خلال مَأْسَسة المشاعر الجياشة، تتحول إلى “وعي” ينتقل “بِنَا” إلى وضع ضامن للاستقرار. لذا، أشك في أن آليةً مثل الانتخابات -وحدها-، أو اختيار رئيس وزراء “سوبرمان”، يمكن أن يُحدثا فرقًا، أو يصنعا “وطنًا”، لكن المؤسسات هي من يفعل. وإلى حين عبور المرحلة الانتقالية، لن يكون نصرًا استبدالُ مُقاول بآخر أو الرهان على آلية، في حين أن كسب معركة صغيرة لا يعني الفوز بالحرب، وهي -على ما يبدو- حرب طويلة لبناء مؤسسات دائمة. ولكنها تبدأ -على ما يبدو- برئيس وزراء، ينجح في اختبار تناول الحَساء بالسكين.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive