الرجوع

زيارة البابا فرنسيس وتحديات التنوع الديني في العراق

الإثنين

م ٢٠٢١/٠٣/٠١ |

هـ ١٤٤٢/٠٧/١٨

منذ الرحلة الأولى إلى الأراضي المقدسة في عام 1964، كان الشرق الأوسط وِجْهة رئيسة للرحلات البابوية. ومع أن هذه الرحلات شملت العديد من دول المنطقة، فإن البابا لم ينجح في زيارة العراق عقودًا. 
مع ذلك، حاول البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني) أن يحصل على تأثير أكبر، من خلال توسيع نطاق تركيز أنشطة زيارته بمناسبة الألفية الثانية لميلاد المسيح، ويضم العراق بوصفه إحدى محطات الرحلة، حيث -وفقًا للتقاليد الإبراهيمية الثلاثة- بدأ النبي إبراهيم رحلته الإيمانية من مدينة "أور". لذا، تضمنت خطط سفره الأولية إلى الشرق الأوسط ثلاث رحلات: رحلته إلى الأرض المقدسة التي حدثت في نهاية شهر آذار/مارس، ورحلته إلى جبل سيناء في شباط، حيث تسلَّم موسى عهد إسرائيل. لكن رحلة الثالثة التي كانت إلى "أور" لم تتحقق. وهكذا خرجت أرض إبراهيم من مسار الرحلة البابوية، وخسر العراق فرصة الاندماج في المجتمع الدولي بعد عقد من العقوبات الدولية بعد حرب الخليج عام 1991. 
مِن المتوقع، أن الزيارة التاريخية الراهنة للبابا فرنسيس لمهد النبي إبراهيم، والصلاة في أور، ستردد صدى نجاح يوحنا بولس الثاني، عندما سافر إلى المغرب في عام 1985، حيث خاطب الشباب ودعاهم إلى خلق مستقبل سِلمي للجميع، وعقَد مع ممثلي الطوائف المختلفة "اليوم العالمي للصلاة من أجل سلام أَسِّيزي"، الذي يُقام بانتظام منذ عام 1986، لا سيما وإن الشباب العراقيين خرجوا في تشرين الأول/أكتوبر 2019 في ثورة طامحة، لخلق مثل هذا المستقبل لجميع مواطنيهم.
مع ذلك، دخلت زيارة البابا فرنسيس اختبارًا للتعلم عن تعقيدات بلاد ما بين النهرين، التي تضم 22 طائفة دينية (مِن ضمنها 14 طائفة مسيحية معترَف بها رسميًّا)، وطرَحت أسئلة صعبة أمام الكرسي الرسولي. فإنْ كان من المخطَّط أن تضمَّ الصلاةُ في أور ممثِّلي الأديان في البلاد، فهل سيتضمن ذلك ممثلي الأديان غير المعترَف بها رسميًّا؟ بعبارة أخرى، إنْ كانت الصلاة ستضم ممثلين عن طائفَتَي الإسلام (الشيعة والسنة) والمسيحيين والأيزيديين والمندائيين (المعترف بهم رسميًّا حسب المادة الثانية من الدستور)، فهل ستضم أيضًا الزرادشتيين والبهائيين والكاكائيين؟ وماذا عن اليهود الذين تَجنَّب دستور عام 2005 ذِكرهم، وحرَمَت تشريعاتٌ لاحقة أفرادَ طائفتهم استعادة الجنسية العراقية؟ وهل يمكن تنظيم صلاة جماعية في بيت النبي إبراهيم، من دون طائفة تُعَدُّ امتدادًا لسلالة يهود بابل التي تُمثِّل وجودًا ألفيًّا، وفي وقت يقتصر وجودهم فيه اليوم على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة؟
لم يقتصر الاختبار على اختيار الطوائف الدينية الصغيرة، إذ إن اختيار ممثلي الطوائف الكبرى لم يَخلُ هو الآخر من تعقيد. فمَن ستجري دعوته ليمثل الشيعة مثلًا في وقت اختلطت فيه العمامة السياسية بالعمامة الدينية، وتعددت فيه المراجع والانتماءات والهويات والأهواء، على الرغم من بروز مرجعية السيد السيستاني بوصفها بيضة القبَّان في الهوية الشيعية داخل البلاد وخارجها؟ ومَن سيمثِّل السُّنَّة باعتبارها مرجعية دينية، في وقت أصبح فيه تَشظِّي الهوية السُّنِّية أحد أمثلة تفكُّك المجتمع، في أعقاب انهيار الدولة بفعل الغزو الأميركي؟ إنَّ بُروز المَجمع الفقهي لعلماء العراق بوصفه مرجعية سُنِّيّة تحاول محاكاة المرجعية الشيعية، جعل السبيل أكثر يُسْرًا لاختيار ممثلين عنها.
مواجهة أسئلة من هذا القبيل، دفعَت إلى تعديل برنامج الزيارة، وكانت مؤشِّرًا يدل على اتِّباع دبلوماسية فاتيكانية مَرِنة. فكان أوَّلُ اختبار خاضه الكرسي الرسولي، يتمثل بعدم إدارج زيارة المرجع الشيعي الأعلى السيستاني في جدول الزيارة، مَدفوعًا باعتقاد الدوائر الفاتيكانية أنه يمكن دعوة المرجع الأعلى إلى الصلاة في "أور"، غافلًا عن واقع تقاليد المراجع الكبار من آيات الله، الذين لا يغادرون منازلهم عقودًا. لذا، عُدِّل البرنامج بعد دراسة أهمية الحالة، وتَضمَّن زيارة بابا الفاتيكان لـ "بابا الشيعة"، في منزله المتواضع في "فاتيكان الشيعة" في النجف الأشرف. 
في الوقت الذي تَشْخَص فيه عيون ممثِّلي الطوائف الدينية المختلفة إلى زيارة الكرسي الرسولي، نجد أنه من المهم معرفة إستراتيجيته أوّلًا، وما يَقدر أن يقدمه لهم. فتعقيدات المجتمع العراقي وتحدياته الداخلية، قد تَفرض سُلَّمًا تفضيليًّا طارئًا. فهناك قضية هجرة مسيحيِّيهِ والتعايش مع سلطة الإسلام السياسي، في وقت ضاعت فيه البوصلة السياسية والهوياتية، بين نظامٍ قومي علماني دعمه المسيحيون (اخترعوه في سرديات أخرى) ليَحلَّ محلَّ نظام الملل العثماني، وإسلامٍ سياسي حصري لا يَقبل التعايش ولا يثمِّن التنوع. 
إنْ كان من مصلحة البابوية، العثور على حلول بنَّاءة للضغوط المختلفة التي يواجهها المسيحيون في الشرق الأوسط، فإن الرؤية التي يبدو أن البابوية تهدف إليها هي ما بعد العلمانية بين الأديان، حيث تجد الأديان الإبراهيمية طريقة مؤقتة لترك إيمانها بعيدًا عن أي هيمنة لدين على المجال العام فيصبح ممكنًا لجميع الطوائف المشاركة فيه على قدم المساواة.
 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive