الرجوع

سيد القمني: هجوم الرافضين والحق في الاختلاف

الإثنين

م ٢٠٢٢/٠٣/١٤ |

هـ ١٤٤٣/٠٨/١١

  1. شكلت وفاة المفكر المصري سيد القمني منذ حوالي شهر حدثًا حقيقيًّا فاصلًا، بين محدودية قدرة جزء كبير من مجتمعاتنا على البناء والتبني لأخلاقيات دينية حقيقية للاختلاف، والصبر على النقد، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بنقد البديهيات الدينية. أيضًا كشف الحدَث عن ترسُّخ ثقافة اللعنات اللاهوتية، وعجز كثيرين عن جعل الإيمان مصدر قيم إيجابية، مبنية على نسبية الحقائق الدينية وكرامة الذات المفكرة.

    كرس الراحل حياته لإعادة قراءة أسئلة كثيرة من المسكوت عنها في التراث الإسلامي، ومراجعة سردياته وبديهياته الكبرى. كان الرجل برأي كثيرين مثيرًا للجدل ومستفزًّا؛ إذ انخرط في مشروع مستمر لنزع القداسة عن المسلَّمات الدينية العامة، وبخاصة تلك المتعلقة بالإسلام. طرح أسئلة مقلقة حول أصول الإسلام وعلاقته بالأديان الأخرى، وأيضًا حول سياقاته التاريخية والسياسية. كرس كتاباته لنزع القداسة من مقولة الجهاد وتاريخ ما يسمى بالفتوحات، ووضَع موضع التساؤل عقيدة صحة النص القرآني واكتماله، ودافَع عن فكرة تاريخيته، فضلًا عن تأكيده بشرية النبوة، وهدمه للصورة المثالية عن الصحابة.

    كانت تحليلاته جذرية وصادمة للكثير من المسلمين وغير المسلمين أيضًا. وقد لا نتفق مع الكثير منها، ولا مع منهجيته في البحث، لكن المؤكد أن المفكر المصري كان يبحث أساسًا عن التأكيد على حق الذات الإنسانية في نقد التراث، ورفض تقديسه، وتفكيك كل المصادر الدينية للعنف، والتي أدت إلى تكريس صورة مشوهة عن الله.

    جرى اتهامه بالتطاول على المقدسات الإسلامية، وتعرض للتهديد بالقتل، ولمنسوب هائل من الشتائم تنمُّ على كراهية عميقة. نعتوه بالزنديق المارق المحارب للأديان والشرع، واعتبروا أن العقاب الإلهي له بالمرصاد. عبَّر الكثيرون عن فرحهم وشماتتهم بمرضه وبعجزه، ثم بِـ"نفوقه وهلاكه". صبُّوا عليه اللعنات وعلى من "يظُنُّ به خيرًا"، مؤكدين أن "الأرض استراحت منه". وأيضًا دعَوا إلى عدم الصلاة عليه، وعدم دفنه في مقابر المسلمين، بل اعتبروا أنه لا يجوز الترحم عليه.

    يتناسى هؤلاء أن الدعاء بالرحمة والسلام لروح الميت، من الأخلاق الأساسية للإسلام، أمام جلال الموت ومثول الإنسان بين يدي الله. لذا، وجب أن نحسن الظن بالله، حتى تجاه من نعتقد أنهم خارج الرحمة الإلهية. فنحبهم ونصبر على ما نعتبره أذًى وضلالًا في طريقة تفكيرهم. هذا الحضور الرحماني لله، ينكشف من خلال اسم الرحمن، الذي يشير إلى الرحمة التي كتبها الله على نفسه، والتي {وسِعَت كلَّ شيء}. فهي تشمل كل المخلوقات، ولا يمكن حصرها في دين محدد، أو فهم معيَّن لحقيقة الله.

    تسمح أخلاق الرحمة بتجاوز فكرة أنه يمكننا أن نمتلك الحقائق النهائية بشأن الله، وبما يريد لنا معرفته. فكرة قد تجعلنا لا نرى الآخرين إلا "كفارًا"، و"زنادقة"، و"أعداء لله". لهذا، أبدى الفيلسوف الفرنسي "ليفيناس" قلقه من أن: "يُفسد اللاهوتُ تفكيرنا عن الله"، لأن تصوُّرنا عن الله قد يجعلنا نغفل عن جوهر الله، الذي يتجاوز كل تصوراتنا. ولهذا أيضًا، كرس الفيلسوف الهولندي "باروخ سبينوزا"، الذي تعرَّض سنة 1656 لحرمان الكنيس اليهودي ولعناته في أمستردام، رسالتَه في اللاهوت والسياسة، للحديث في الممارسات الدينية العنيفة والاحتقارية، والتي تؤدي إلى الانقلاب على قيم الدين وتعاليم الأنبياء. فيتحول الإيمان بالله إلى تعصب وحقد ضد مخالفينا.

    إن الله يظلُّ سرًّا عميقًا ولا نهائيًّا؛ إذ هو أكبر من كل الأديان، ويتجاوز كل مقولاتنا التي نسقطها عليه، وهذا هو ما تشير إليه الآية القرآنية: {ولا يُحيطون بشيءٍ مِن عِلْمه إلّا بما شاء}. فالله أعجزَ خلقه عن الإحاطة به، وهو المحيط بكل شيء. نعتقد كلنا أننا نفكر "داخل الحقيقة"، لكننا في حقيقة الأمر نفكر "داخل الله". لذا، أعتقد أن السيد القمني -حتى ولو بدا لبعضهم أنه بعيد عن الله-، إلا أني أعتقد أنه ظلَّ يفكر داخل الله. أيضًا أعتقد أنه جزء من مسار طويل للإنسان نحو الله.

    إن احترام الآخر في فكره -حتى ولو كان يبدو لنا مجدِّفًا في حق الله-، هو التمظهر الحقيقي للإيمان. يجب علينا ألا ننسى أن الله عاتب نبيه إبراهيم في شخص اعتبره كافرًا، ورفض أن يرحِّب به ويتقاسم معه طعامه. أيضًا يجب عدم التمييز بين واجبنا تجاه الله وواجبنا تجاه الآخرين الذين هم إما: "إخوة لنا في الدين، أو نُظَراء لنا في الخَلْق". هكذا، يتحول الله إلى مفهوم أخلاقي، يُلزمنا محبة من نعتبرهم أعداءنا، كما يقول يسوع المسيح: "أحِبُّوا أعداءكم. بارِكوا لاعنِيكم. أحسِنوا إلى مُبغضيكم".

    إلى أولئك الذين لعنوا سيد القمني وهو حي وتوعدوه بالنار، وقد توفاه الله، أقول ما قاله مولانا جلال الدين الرومي: "أَتُريد أن تدخل إلى الفردوس؟ تحتاج إلى رحمة الله ‫ لتسير على الصراط المستقيم. جميعنا نواجه الموت في النهاية، لكن كن حريصًا وأنت على الطريق.‫ إياك أن تؤذي قلب بشر".‬‬

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive