الرجوع

"غوبلز" و"كلوب هاوس" والمعضلة الاجتماعية

الأربعاء

م ٢٠٢١/٠٣/٠٣ |

هـ ١٤٤٢/٠٧/٢٠

أتذكّر أيام دراستي في كليّة الإعلام، عندما كنّا نناقش تأثير وسائل الإعلام في الجمهور، كيف كان "جوزيف غوبلز" من أبرز الحالات -وأخطرِها- التي تُستحضَر مادةً للنقاش! "غوبلز" الذي عُرِف وزيرًا للدِّعاية النازية، في عهد "الفوهرِر" "هتلر" إبَّان الحرب العالمية الثانية، أصبح مَدرسة لِـ"البروباغندا"، نظرًا إلى السيطرة الكاملة التي تَمكّن من فرضها على الراديو (أكثر الوسائل الإعلامية تأثيرًا حينها)، حيث استغلَّه لترويج الفكر النازي والتلاعب بمشاعر الجمهور وسلوكه. لطالما تَرافَق نقاشُنا آنذاك مع نظريات تَعتبر أن التعددية والتنوّع في الإعلام ومصادر المعلومات، هما الطريقان الأمثلان للحد من مظاهر السيطرة على الإعلام.

في عام 2021، وبعد 88 عامًا من انطلاق مَدرسة "غوبلز" تلك وتأسيسها، بات واضحًا أن التعددية والتنوّع في الإعلام، لم يشكِّلَا حلًّا لمعضلة تسخير الإعلام للشر، الذي طوّر بِدوره تِقنيات استغلال الإعلام لخدمة مصالحه. فمع "ديمقراطية" التواصل التي توفّرها شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ومع التعددية والتنوع في رسائلها، ما زال النقاش قائمًا بقوّة حول قدرة بعضهم على استغلال هذه الوسائل، وتسخيرها لخدمة مشاريع كراهِيَة وإرهاب.

إنَّ ما أعادَ مِثال استغلال "غوبلز" للراديو إلى ذاكرتي، هو النقاش العالمي الدائر حاليًّا حول تطبيق "كلوب هاوس" (Clubhouse) الجديد، الذي هو أشبَهُ براديو تَشارُكيٍّ، يَتوقّع خبراءُ منه أن يشكّل بداية لعصر رقميّ جديد. هذا التطبيق الذي يَعتمد على الصوت وسيطًا أساسيًّا للتواصل، أثار خلال الأسابيع الفائتة جملة من التعليقات والانتقادات، حول احتضانه لخطابات الكراهية والعنف والتطرّف، وعدم احترامه لسياسات الأمان والخصوصية، لا سيما بعد حَجبه في الصين، وانتشاره الواسع في المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا. 

من الواضح أن هناك نوعَيْن بارزَيْن من الخوف بسبب هذا التطبيق، أحدهما: خوف الحكومات والأنظمة من انتشار مساحة حرّة للتعبير، غير محدودة وغير قابلة للمراقَبة (نظريًّا)، قد تسمح بتشكّل حركات مناهضة لها وبتطوُّرها من جهة؛ ما يفسّر حجب الصين لهذا التطبيق. والثاني: خوف الخبراء والمختصّين من تنامي ما عُرف في السنوات الماضية بـ"غرف الصدى المتطرّفة"، من جهة أخرى.

في مقال سابق على تعددية (مَواقِع تَواصُل أَمْ تَقوقُع اجتماعي؟!)، تناولت موضوع المساحة الخاصة الشبيهة بنا، التي تَخلقها لنا الخوارزميات في فضاء افتراضي غير محدود، حيث تُخمِّن بطريقة مبرمَجة المحتوى الذي نودُّ أن نراه، أو الآراءَ والأفكار والأخبار التي نودُّ الاطِّلاع عليها، وهو الأمر الذي يَحصرنا بوصفنا مستخدِمين/ات في "فقّاعات" تشبهنا، من دون التعرّض للرأي الآخر المختلف. ولطالما استَغلّ المُعلِنون والسِّياسيّون حتَّى المتطرّفون المستخدِمون/ات للعنف، هذه الثَّغَرات التِّكنولوجيّة، للوصول إلى الفقّاعات التي يريدون، وتوجيه رسائل محدّدة، ومِن ثَمَّ الإقناع بمنتَجاتٍ أو أفكار أو خِيارات سياسيّة أو دينيّة محدّدة.

هذه المخاوف والإشكاليات كان قد وثّقها أخيرًا وثائقيُّ "المعضلة الاجتماعية" The Social Dilemma، على منصة نتفليكس Netflix، الذي يشرح كيف تَستخدم مواقعُ التواصل الاجتماعي الخوارزميات، لجعل المستخدمين/ات يكررون زيارتها ويَخلقون "الفقّاعات"، وكيف يؤثر ذلك في الانتخابات، والعنف العِرقي، ومعدلات الاكتئاب، والانتحار حول العالم. وقد انضم إليها تطبيق "كلوب هاوس" أخيرًا ليصبح جزءًا من هذه المعضلة، حيث: "لا يَدخل شيء ضخم حياة البشر من دون لعنة" -حسب ما يَذكر الوثائقي في بدايته مستشهدًا بـ"سوفوكليس"-. ولكن، لماذا كانت وسائل التواصل بهذه الأهمية للناس؟ 

منذ البدء، اعتُبر التواصل من حاجات الإنسان الأساسية، وبخاصةٍ حاجته إلى الحصول على معلومات، وحاجته إلى التعبير. لقد تَبلورت هذه الحاجات مع الوقت، فأصبحت حقوقًا مكرّسة في المواثيق الدوليّة، وتحديدًا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته التاسعة عشرة. هاتان الحاجتان هما ما تقوم مواقع التواصل الاجتماعي بتلبيتهما بشكل أساسي؛ والدليل هو الانتشار الواسع لتطبيق "كلوب هاوس" في البلدان التي هي "أكثر حاجة" إلى المعلومات وإلى التعبير، مثل الصين والمملكة العربية السعودية. أمّا المعضلة، فتنشأ عندما يجري التلاعب بحاجات الناس واستغلالها، أو عندما يجري تلبية هذه الحاجات بشكل خاطئ، من خلال امتصاص المعلومات الزائفة والمضلِّلة، واللجوء إلى خطابات الكراهية والتطرّف بوصفها وسيلة إلى التعبير. 

في ظل هذا التجاذب بين حاجات الإنسان، واستغلال بعضهم لوسائل التواصل للتلاعب بها، ليس واقعيًّا أن يتمحور النقاش حول "التِّقنية" نفسها فقط، بل لا بدّ أن يركِّز على كيفية تحصين المستخدمين/ات، وتعزيز مهاراتهم ومعارفهم، وترسيخ قيمهم، ليتمكَّنوا من دخول "الغُرف" المناسبة، إضافة إلى تطوير سياسات مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف تجنُّب معضلة اجتماعية جديدة. فإنْ كان هناك لاعبون/ات مؤثرون/ات، يمكنهم استغلال وسائل التواصل لتعزيز ثقافة الموت -مثلما فعل "غوبلز" عبْر الراديو-، فإنّنا حتمًا قادرون/ات على استخدام الوسائل نفسها لتعزيز ثقافة الحياة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive