الرجوع

من الهجرة نحو الذات إلى الهجرة نحو الآخر

الإثنين

م ٢٠٢١/٠٨/٢٣ |

هـ ١٤٤٣/٠١/١٥

في ذكرى الهجرة النبوية، يتجدد النقاش حول الدلالات التي يكتسيها هذا الحدث التاريخي في سياق أزمنتنا المعاصرة. فإنْ كانت الهجرة تُشكل حدثًا حاسمًا وقطيعة مؤسِّسة لتاريخ الإسلام ولمنظومته الفكرية، فإنَّ المسلمين يتساءلون كيف يعيدون إحياء هذا الحدث، وما القطيعة التي هم مَدعوُّون إلى إنجازها في سياق تاريخي وحضاري مختلف.
 
في تاريخ الإسلام، تُحيل الهجرة أوَّلًا على عملية الانتقال من "أرض الكفر إلى أرض الإسلام"، كما كانت الهجرة من مكة إلى المدينة. لذا، نفهم اختيار الهجرة حدثًا مؤسِّسًا لتاريخ الأمة، وفارقًا بيْن "الحق والباطل". عملت النظرية الفقهية التقليدية على ضبط مفهوم الهجرة في إطار تصوُّر ثنائي ومانَوِيٍّ للعالم، مَبنيٍّ على عقيدة الولاء والبراء التي تقسم العالم إلى دار إسلام وسِلْم، ودار كفر وحرب. واعتُبرت الهجرة من بلاد "الشرك" إلى بلاد الإسلام "فريضة دينية إلى قيام الساعة"، بل إن بعض الفقهاء ذهبوا إلى تحريم السَّفر أو الهجرة إلى بلاد "الكفار"، لكي يحافِظ المُسلم(ة) على دينه.
 
استعادت بعض الحركات الأصولية الإسلامية المعاصرة عقيدة الهجرة، من أجل بناء إيديولوجية متطرفة وراديكالية. فهي تصِف كلَّ المجتمعات المعاصرة -ومِن ضِمنها المجتمعات التي تَعتبر نفسها مسلمة-، بالكفر والجاهلية، لأنها "لا تَحكم بما أنزل الله"، وتدعو إلى اعتزالها وهجرتها، للمفاصلة بين دار الإسلام ودار الكفر، في محاولة لإعادة إنتاج الهجرة النبوية وإحياء أصول الإسلام ونقائه. شكَّل تنظيمُ الدولة الإسلامية مثالًا لهذه الأصولية، حيث تحولت عقيدة الهجرة إلى فرضٍ من فروض الجهاد، من أجل استرجاع أمجاد الفتح الإسلامي، واقتنع الآلاف من الشباب بعقيدة الهجرة، نحو دولة الخلافة التي مارسَت توحُّشها ضد المسلمين وغير المسلمين على حدٍّ سواء.
 
 
 
لكن في الوقت نفسه، وبفعل العولمة وأزمات المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، انعكس مسار الهجرة التي فقدت معناها الفقهي، على سياق الهجرات المكثفة للجماعات الدينية المسلمة، إلى الغرب "المسيحي" الذي يوصف بالكافر". أيضًا سيكتشف العديد من المسلمين أنه يمْكنهم أنْ يمارسوا حريتهم الدينية والفكرية في بلاد "الكفر"، أكثر مما يمكنهم ممارستها داخل بلدانهم الأصلية. أصبح واضحًا أنه لم يعُد من الممكن بناء فهمنا للهجرة على تقسيمات دينية، لأن الانتماءات الدينية لم تعُد معيار الدولة الحديثة، المبنيَّة عل المواطَنة والحياد الديني للدولة. يستدعي هذا التحول تغيير فهمنا للإنسانية، التي لا يمكن أن تُقسَم إلى مسلمين وكفار، بل هي إنسانية ذات مصير واحد ومسؤولية مشتركة.
 
يجب ألَّا ننسى هنا أنها ليست المرة الأولى التي يهاجر فيها المسلمون إلى دار غير المسلمين، إذ كانت الهجرة إلى الحبشة أوَّلَ هجرة في تاريخ الإسلام، حين اضطُرَّت جماعةُ المسلمين الأولى -بعد تعرُّضها للتعذيب والاضطهاد على يد زعماء قريش-، إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة المسيحية، مسترشدةً بالأمر النبوي: "لو خرَجتُم إلى أرض الحبشة، فإنَّ بها ملِكًا لا يُظْلَم عنده أحد، وهي أرضُ صِدقٍ ـ حتى يجعل الله لكم فرَجًا مما أنتم فيه".
 
اِلتزم النجاشي (الملك المسيحي) حمايةَ وفد المسلمين، ورفَض تسليمهم إلى مضطهديهم، انطلاقًا من مبدأ التعاطف في الإنسانية المشتركة، فضلًا عن المشتركات الدينية بين المسلمين والمسيحيين. لم يتعلق الأمر بلجوء سياسي فقط، بل بتجربة "ضيافة إنسانية" عميقة. لا شك أنه كان لهذا الحدث دور في نشأة الإسلام واستمراريته، لأنه يستدعي الكثير من التفكير، إذ لم تكن الهجرة نحو الذات، بل نحو الآخر الذي قد يكون سبيل خلاصنا.
 
لذا، فإني أعتقد أن المعنى الديني الحقيقي للهجرة، في سياقاتنا المعاصرة المتميزة بتَنامي مستويات التعددية والاختلاف، هو الهجرة نحو الآخر، لبناء مجتمعات الألفة والمحبة والاعتراف بمختلف الغيريات. لم تعُد الهجرة تعني (دينيًّا)  ترك الوطن باتجاه وطنٍ آخر، أو وطنٍ سرِّي داخل الوطن، بل تعني تحطيم الجدران والأسوار الفقهية من أجل التأسيس للإنسانية المشتركة. فنَقبل ضيافة الآخر، وتتحقق الغائية القرآنية: {إنَّا خلَقْناكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثَى وجعَلناكُم شُعوبًا وقَبائِلَ لِتَعَارَفُوا}. 
 
مِن السهل أن نُهاجر نحو ذواتنا، ونحتفي بامتلاء حقائقنا المطلقة، ولكن عندما تتناسل الجدران الفاصلة، وتختفي المعابر بين الهُويات الدينية، فإن الهجرة نحو الآخر هي طريق البشرية نحو الخلاص. بالنسبة إليَّ، ليست الهجرة جهادًا لإعادة بناء دار الإسلام، والانفصال عن عالم الباطل، بل سَفرًا نحو الآخر، لكي نُعيد بناء أنفسنا. فأصلُ كلِّ الخطايا هو أن نمتلِئ بذواتنا. 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive