الرجوع

حدائقكم الداخلية... لا تنسوها في الحرب

الخميس

م ٢٠٢٢/٠٢/١٠ |

هـ ١٤٤٣/٠٧/٠٩

قال لي صديقي ربيع: "إنْ أزعجتك الأحداث واشتدت عواصف الزمن، فاركض نحو حديقتك الداخلية. اجلس في ظلالها واستمد منها بعض القوة، لكي تستمر صامدًا في الخارج. في حديقتك الداخلية ذكرياتك الجميلة، واللحظات الثمينة، وإنجازاتك، ومكامن السعادة التي لم تستطع أحداث الزمن محوها، وشبكة الأصدقاء الذين زرعوا الورد في دروبك. حافظ على حديقتك لكي تحافظ عليك". كان حديثه ضمن طقوس المواساة حين التقاني، وأنا القادم من بلد مَلْأَى بحروب ليس لها حد. 

نَقلتُ حيلة الحديقة إلى صديق آخر، كانت جروح الحرب قد استقرت في أعماقه. فالْتَفت إليّ، وبمنطق اليائس قال: "لقد احترق كل شيء، ولم يبق في الداخل سوى صخور وصوت غراب". كان اجتياح الحرب لحديقته مدمِّرًا. منذ الأيام الأولى دخل في نوبة اكتئاب دون أن يدرك. وبدلًا من تعهُّد حديقته، استمر في تكسير أشجار ذاته بمِعْوَل الهروب والإنكار، ومحاولة الظهور وكأنَّ كل شيء على ما يرام. لكنه بعد حين، وجد نفسه غير قادر على الحركة. لقد أصبح بعيدًا عن ذاته كثيرًا. كتَب لي في إحدى رسائله: "فقدتُ القدرة على تذوق أي شيء. مات جاري الأحبُّ إليَّ بقذيفة، فلم أشعر بشيء، ولم أستطع البكاء، وأنا الذي كان يبكيني مشهد فراق عابر في دراما رديئة. أما الفرحة، فلم أعُد أجدها وإن امتلأ فمي بالضحك. أنا أتلاشى أمام عيني". حاليًّا، يتابع صديقي حالته لدى مُساعِدٍ نفسيّ، والآمال أن تعُود حديقته مزهرة، ليرعاها وتسنده. 

في غمرة الأحداث الكبيرة، نشتغل عادة بالكوارث الظاهرة. نسمع أصوات الرصاص، ونرى كومة الدخان، ونشاهد الدمار الذي لحق بمدننا وقرانا. فنركض هاربين طمعًا في النجاة. وحين نحصي الخسائر نَذكر عدد من فُقدوا ومن جُرحوا، لكننا لا نلتفت إلى بعض الرصاص الذي تَسلل إلينا، واستقر فينا دون أن يُحْدث جرحًا خارجيًّا، بل إنه فضَّل البقاء في داخلنا، ليمارس حيلة سرقة الحياة من أعماقنا. أرقام الضحايا التي لا نشاهدها في نشرة الأخبار، قد نكون أصحابها، أو تخصُّ القريبين منَّا. فالنجاة لا تعني عدم سقوط الدماء منا، بل قدرتنا على ترميم ذواتنا، وإدراك الأثر غير المرئي في كل ما نمر به من أحداث. 

في الأيام الماضية، هزت حادثة "فيصل" بيوت اليمنيين. شابٌّ عشريني عُرف مثابرًا وطموحًا بين أوساط زملائه في جامعة صنعاء. قرر مغادرة الحياة، واستخدم الموت أداة احتجاج أخير، ضد حياة مستقرة لم يحظ بها. قبل الرحيل، كتب الكثير من الألم الذي ملأه خلال رحلته، ثم علق جسده على جذع شجره في حديقة مهجورة، وسلم روحه للأعلى. قضيتُ وقتًا أتصفح كتاباته. لم يكن فيصل غريبًا، بل كان يشبهنا، لكن نفسه اختنقت دون أن يدركها أحد. وفي خضم الضجيج الذي لا تُسمع فيه تمتمات فيصل، خسرناه. لم يكن فيصل القصة الوحيدة، بل خلاصة مكثفة للكثير ممن فقدناهم خلال السنوات الماضية. 

تجاهُل الصحة النفسية، هو أحد المشاكل المتأصِّلة في المجتمع اليمني. ومع مجيء الحرب تَحوَّل الأمر إلى كارثة. فيعاني ملايين اليمنيين آثار الحرب النفسية، مثل: الاكتئاب، والقلق، والصدمات النفسية، والاضطرابات المزمنة، وغيرها الكثير. ومع ذلك، ما زال الحديث في المعاناة النفسية محاطًا بالعُقد الاجتماعية، والذهاب إلى الطبيب النفسي -إن وُجد- هو نوع من الجنون. وعند حصول حادثة كحادثة فيصل، تَغيب مناقشة الأسباب الحقيقية للعبور نحو ما يمكن فعله من علاج، وتَحضر بكثافة قراءة الحادثة من زاوية الحلال والحرام.

لستُ مختصًّا في حقل العلاج النفسي، وفي مرات كثيرة أُواجِه الكثير من الفضفضة النفسية القادمة من الأصدقاء بالصمت، لعدم القدرة على امتلاك الإجابة، أو لتفضيل السكوت على إعطاء نصيحة خاطئة قد تُعمق المأساة أكثر مما تفيد. لكني أعتقد أن إدراك جروحنا النفسية وفهمها أمر مهم، وأيضًا عدم القسوة بحق أنفسنا، وتجنُّب جلد الذات تجاه ما نعانيه، هما من الأمور الأساسية للتعامل مع ما نمر به من آثار نفسية، جلبَتها أوضاع الحرب. ثم إنَّ مدَّ يد المساعدة ولو بالمواساة، والاستماع لمن حولنا، يخففان من الضغط النفسي الجماعي، ويبنيان جزءًا من الوعي. 

وطأة الحرب أكبر بكثير من كل القليل الذي نملكه. لكن، لنتذكر الحديث النبوي: "إنْ قامت الساعة وبِيَد أحدكم فَسِيلةٌ (نخلة صغيرة تُقطَع من الأم)، فليَغرسها". 

 

    مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

    إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

    جميع الحقوق محفوظة © 2024
    تصميم وتطوير Born Interactive