الرجوع

مدننا المعزولة بين الحرب والسياج

الخميس

م ٢٠٢٢/٠٨/١٨ |

هـ ١٤٤٤/٠١/٢١

في منطقة البقاع اللبنانية على الجهة المقابلة لمعبر المَصنع، الفاصل بين الحدود السورية واللبنانية، وقفتُ أتأمل أراضي سوريا. ها هو البلد الذي حلمت بزيارته منذ الطفولة، قابِعٌ أمامي، أو أنا قابع أمامه. أنا الواقف من خلف السياج أحاول ملء عيني بلون الأرض ما استطعت. في لحظة وقوفي، تلقيت رسالة على هاتفي تقول: "مرحبًا بك في سوريا". قمت بمهاتفة صديقي السوري الأقرب، لأخبره مغتبِطًا بأن الريح التي تحيط بي قادمة من دمشق. أنا في أقرب نقطة من الأماني القديمة، أتسمَّع إلى اللهجة السورية التي يتحدث بها، وأتطلَّع إلى أطراف التلال السورية أمامي، وأرى لوحات السيارات العابرة المطبوع عليها أسماء مدن الداخل. جميعها شكلت مشهدًا سوريًّا عشته بضع دقائق، كان نصفه واقعًا لا أطُوله، والنصف الآخر حيلة خيال. 

عدتُ إلى بيروت عند المساء. كنت متعبًا من التفكير والسفر. لم أشأ العودة للمنزل، فخرجت إلى شوارع المدينة أتجول دون توقف. أردت أن أتفقد ما استطعت من الأماكن؛ إذ لا متسع في رأسي لفكرة أن تصبح بيروت من الصعب الوصول إليها. ربما أردت أن أتحقق من قدرتي على التنقل في أنحاء مدينة عربية أخرى، وألتقي الأصدقاء والغرباء، وأمرُّ على تفاصيل الحياة فيها. كانت لديَّ رغبة عميقة في كسر قاعدة العزلة المضروبة علينا "نحن أبناء المدن المتباعدة". هاجس الفقدان في تلك الليلة لم يكن عابرًا، لبنان هو الآخر صار مُتعَبًا، والبقاء فيه بات مهمة شاقة. 

لقد أوجدَت الصراعاتُ والأزمات في منطقتنا العربية مُتَتاليةً من العُزلات الاجتماعية والجغرافية. من خلالها تحولت مدنها الفسيحة إلى أرياف لا تتسع إلا لذويها. لم يعد ممكنًا لواحدنا أن يتنقل بين عواصم المنطقة بحُرِّية. ثمة سياج، وتأشيرة عبور، وأزمات ممتدة، وحروب مفتوحة، وخوف من الخوف إن تجاوزتَ ما سبق من العقبات. هذه القيود صنعت جيلًا معزولًا عن محيطه، وحولَت الجوار المتصل إلى جزر منفصلة، من الصعب الوصول إليها. أتذكر أصدقائي من الدول العربية الذين تعرفت إليهم خلال العقد الماضي، معظمهم التقيت بهم في بلدان وسيطة. بعض هذه البلدان لم يعد زيارتها ممكنًا لتمدد صعوبات الوصول إليها واشتراطاتها. 

فرَضَت هذه العزلة حيوات اجتماعية وثقافية متوازية لا تتقاطع، سِمتها الرئيسية أنها لم تعد تلتقي أو تتفاعل كما يجب. في المقابل، زادت الهوة بين مجتمعات المنطقة. فلم يعد العراقي قادرًا على الذهاب إلى طرابلس الليبية، وليس ممكنًا للسوداني أن يقضي إجازته في صنعاء اليمنية. المدن الآمنة أيضًا صارت حكرًا لحاملي وثائق سفر، معظمها لا تشبه وثائقنا. ثم إن حراكاتنا الثقافية اليوم أصبحت منكفئة على ذاتها، عاجزة مثلنا عن العبور إلى المشترك من القضايا. والمبادرات التي تظهر من وقت إلى آخر لكسر هذه العزلة، تبدو خجولة، وغير قادرة على تجاوز عقبات الحدود العديدة، وغالبًا ما تنتهي مآلاتها إلى التوقف. 

جرت العادة في الأزمات والحروب أن نحصي خسارتنا من الأرواح والممتلكات. فذاك أمر يسهل مشاهدته والتفاعل معه، لكن الكلفة الاجتماعية والثقافية التي فرضتها هذه العزلة، وباعدَت بعض مدننا عن بعض، هي خسارة لا تقل كلفة عن سابقاتها. فالإرث الثقافي الغني لشعوب المنطقة، المزدهر في أزمنة التواصل والالتقاء، يعاني اليوم النضوبَ وشحَّ الروافد، حتى إن الفعاليات الاجتماعية والثقافية ذات الطابع المشترك التي تستضيفها بعض المدن العربية، معظمها فعاليات شكلية، أي أنها لا تعبِّر عن الحالة الصحية للتواصل الاجتماعي والثقافي بين شعوب المنطقة. فهي -إضافة إلى شكليتها المفرطة- مرتبطة بمنظومة مؤسسات أو دول، تجعلها تخلو من سجيتها الطبيعية. ثم إنها تُقدم برجوازية ضمنية داخل الفضاء المشترك، وذلك بحصر عملية التواصل بين الشعوب في فئة معينة هي ذاتها في كل محفل. 

أدى تلاشي ظاهرة المدن العربية المفتوحة، إلى بروز المدينة البديلة. فرحيل الآلاف من المثقفين والمفكرين العرب إلى المنافي البعيدة، سمح بتكوُّن حراكات ثقافية، وتواصُل اجتماعي بين بعض رفقاء المنفى القادمين من المجتمعات العربية المختلفة. لكن تفاعل الشتات مع قضايا المنطقة، ليس سوى مظهر آخر من العزلة. نصفه واقع لا يُطال، والنصف الآخر حيلة خيال.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive