الرجوع

إشكاليّة الراعي والرعيّة

الخميس

م ٢٠١٩/٠١/٢٤ |

هـ ١٤٤٠/٠٥/١٨

ما أورده الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "التِّبر المسبوك في نصيحة الملوك"، عن اختيار الله "طائفتَين: وهم الأنبياء (ص) ليبيِّنوا للعباد على عبادته الدليل، ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل..."، و"الملوك لحفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض..." (الغزالي: ص43-44) - بُنِيَ على أساسه صياغة إسلامية وسيطة لثنائيّة الراعي والرعيّة، وطبيعة العلاقة بينهما في أدبيات نصائح الملوك والأمراء، وأيضًا في بعض كتب السياسة الفقهية الشرعية. إنها الصياغة التي تضع الملوك في موازاة الأنبياء وأصحاب الرسالات، من حيث الاختيار الإلهي وإتيان النبوة والمُلك، وَفْقًا للمشيئة والاصطفاء الإلهي، وكأنَّ الملوك وَرَثة الأنبياء بعد إتمام الرسالاتِ دورَها في هداية البشر إلى طريق الحق. فيأتي دور هؤلاء الملوك في الحفاظ على ذلك الميراث، وحمايته وأتباعَه من الفوضى والضياع.

يصل الأمر في تلك الصياغة الوسيطة، إلى حدِّ جعل هؤلاء الملوكِ الرُّعاةِ الحافظين للشرائع والعباد أو الرعيّة، خلفاءَ الله في أرضه، بكل ما قد تستدعيه وضعية الخلافة من معانٍ ودلالات قرآنية، مرتبطة بمشهد خَلْق آدم وجعلِهِ خليفة الله في أرضه، الذي علَّمه الأسماء، وأمر ملائكته بالسجود له (سورة البقرة: الآيات 30-31-32-33). إن هؤلاء الملوك الخلفاء هم ظلُّ الله في الأرض، والمنوط بهم حفظ خلقه وشريعته. ولهذا، وجبت طاعتهم ومتابعتهم، ولا يجوز معصيتهم أو منازعتهم مُلكهم.

نودُّ فقط أن نتوقف عند بعض النصائح المدهشة، والمثيرة للعديد من التساؤلات، ممّا ورد في الكتاب:

أوّلًا: ما يتعلق بمحاسبة السلطان أو الراعي، والتي ترهنها تلك الصياغة بالعقاب الإلهي في الآخرة، حيث تضع السلطان في مواجهة الله وحده دون سواه، والذي قد يغفر للسلطان إتيانه الحرام في شأنه الشخصي، لكنه لا يغفر له ظلم الرعية (الغزالي: التبر المسبوك، ص13). ويُعيد هذا الخطاب إنتاج بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول محمد (ص) داخل هذه الصياغة، بغضِّ النظر عن مصدرها وقوة إسنادها، من أجل إكساب الصياغة مشروعيَّتَها ومصداقيّتها الدينية.

ثانيًا: تجعل تلك الصياغة سلامة السلطان وإقامته العدل رهينة بمقاربة علماء الدين، ليعلِّموه طُرق سياسة الرعية بالعدل، ويسهِّلوا عليه بنصائحهم الرشيدة خطر الولاية وعُظم أمرها، وخاصة هؤلاء العلماء الذين لا يَطلبون الدنيا بالدين، ولا يَبغون سوى نصح الأمّة. وبالطبع، يتجاهل هذا الخطاب أيَّ نُخَب معرفيّة أو ثقافية أخرى، يمكن بدَورها أن تقدِّم النصيحة للحاكم؛ ذلك أنه خطاب لا يضع الحاكم أمام رعيته، بل أمام الله ورجاله المحتكِرِين لسلطته العقائدية فحسب.

ثالثًا: تؤكد تلك الصياغة أن الدِّين والمُلك تَوْأَمان. ولذا، وجب على المَلِك إنْ عَلِم أن في ولايته مَن يُتهم في دينه ومذهبه، أنْ يأمر بإحضاره وتهديده. فإن تاب وإلا أوقع به العقاب ونفاه من ولايته، ليطهِّر الولاية من بِدعته، وتَخلو من أهل الأهواء، ويُعزَّ الإسلام، ويُعاد رونق السُّنَّة النبوية.

رابعًا: تأكيد أن طباع الرعية تجري على عادة ملوكها، أو كما يقول: "الناس على دين ملوكها". فإن كان السلطان جائرًا قبيح الفعال، كانت رعيَّته على شاكِلَته. وفي حين ينفي هذا التصور مفهوم الحرية والمسؤولية والاختيار الفردي الواعي، ويدعم أخلاق الحشد، فإنه يشكِّل أحد المكوِّنات الأساسية لتلك الصياغة.

بعيدًا عن آليّات الهيمنة العميقة، التي تُكرّس لها تلك الصياغات، فإن اللافت حقًّا هو ذلك التعامل مع الرعية بوصفهم مجموعة من العيال، الذين ينبغي معاملتهم إمّا عبر الصرامة والشدة، أو اللين والرِّفق، وَفْقًا لمنطق الإله إزاء عباده، أو الأب إزاء عياله. وهو ما ينفي عن الرعية طابع المسؤولية والأهليّة العقلية نفيًا جليًّا. فما ثَمَّ إلّا منطق التربية والهداية والوصاية بالمعنى القيمي، وليس القانوني! وحتى حين ينصح هؤلاء -ومنهم الغزالي- السلطانَ، بإغاثة رعيته وقت الشدائد والمصائب والقحط وغلاء الأسعار... إلخ، فإنما يكون الهدف الأساسي من النصيحة، الحفاظ على السلطان وهيبته ومصالحه، وهو الهدف الأساسي من العدل والإنصاف وإغاثة الرعية وقت الشدائد، وليس الهدف مصلحة الرعية البؤساء!

تبقى المفارقة الأخيرة في ذلك الطرح الأَبوي السُّلطَوي فادِحِ الهيمنة، في حديث هؤلاء العلماء والمفكرين حول صحبة السلطان، حيث يقول الغزالي: "قال سفيان: لا تصحب السلطان وإياك وخدمته، لأنك إن كنتَ له مطيعًا أتعبَك، وإن خالفته قتلك وأعطبك... ليس لهم صديق ولا قرابة ولا خادم ولا ولد". بالطبع، كانت هذه نظرة طائر سريعة ومختزلة حول تلك الإشكالية، حيث إن تلك النصوص تحتلُّ مساحة لا بأس بها من تراثنا الثقافي، وتحتاج إلى قراءات متنوعة؛ لا لفهمها فحسب، بل لتفكيك تلك المقولات أو البُنْيات النَّصِّيّة الوسيطة، التي ما زالت تتحكم في الذهنية العربية، سواء لدى الرعية التي ما زالت تستمرئ دور الرعية، أو لدى الرُّعاة من رجال السياسة والدين، الذين يكرِّرون العديد من ثوابت هذا الخطاب الوسيط، ويحكِّمونها في صياغة علاقتهم بمحكوميهم.

يبقى السؤال، بل الهاجس المُلحّ في هذا السياق، حول إلى أيِّ مدى يمكن أن تشكِّل تلك الصياغات المهيمِنة على خطابنا السياسي والديني، وأحيانًا الثقافي، عائقًا عنيفًا أمام كلِّ التصورات أو الأحلام أو النقاشات، حول مفاهيم المواطَنة والحُكم الرشيد، والتي تشكِّل دعائمَ أساسية في بناء الدولة الحديثة في صياغتها المدنية الديمقراطية، والتي هي كِيان اعتباريّ لا دين له، وينبغي للجميع أن يستظلُّوا به على اختلافهم، وتباين أديانهم ولغاتهم وأعراقهم وأفكارهم، بوصفهم مواطنين كاملي الحرية والأهلية والمسؤولية، ويتمتعون بكامل الحقوق والواجبات، داخل بُنْية دولة حديثة يَحكمها رجال وحكومات مختارة من هؤلاء المواطنين، ووَفْقًا لعَقْد اجتماعي، وليس لانتقاءٍ إلهي، ومشروعيَّة عَقَدِيَّة!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive