الرجوع

الأنا والهُويّاتيّة

الخميس

م ٢٠١٩/٠٨/٢٢ |

هـ ١٤٤٠/١٢/٢١

منذ أسبوعين قرأتُ روايةً لكاتب فرنسيِّ اسمه لوران غونيل، تتمحور رواياته حول الأديان، والسَّعي الفردي لاكتشاف معنى الحياة. فاستوقفني في هذه الرِّواية تعريفٌ جديد لمسألة الـ"أنا المتضخِّمة"، أو ما يُعْرف بالـ (ego). عامّةً تُعرَّف الأنا المتضخِّمة من خلال ما يَظهر منها، إلَّا أنَّ الكاتب عرّفها بطريقة أعمق، مُحاولًا سبر الأسباب الَّتي تدفع الإنسان إلى تضخيم الأنا.

بالنِّسبة إليه، السَّبب الأعمق هو عدم استطاعة الإنسان الْتِقاطَ كُنه ماهيَّة ذاته. فعُمق الذَّات هو سرٌّ، ولا نستطيع حصره أو تعريفه مهْما حاولنا. ممْكن أن نعرّف أنفسنا بانتماءاتنا الظَّاهرة، كالانتماءات المناطقيَّة أو الثَّقافيَّة أو الدِّينيَّة أو الإثنيّة أو الفلسفيّة أو الاجتماعيَّة؛ أو أنْ نعرّف أنفسنا بصفات خاصَّة أو بأدوار نؤدِّيها في حياتنا، لكنَّنا لا نستطيع أن نُعرّف كُنه الذَّات، وهذا يُرِيبُنا.

لذا، نحنُ -بحسب الكاتب- نتشبَّث بالأوصاف أو الأدوار الَّتي نَحملها. إلَّا أنَّنا كبشرٍ نرى أنفسنا مقصّرين دومًا، تجاه الأوصاف أو الأدوار، الَّتي نُعرّف بها أنفسنا من خلالها، فنضخّمها لنَستر شعورنا بهذا التَّقصير. وكلُّ ذلك طبعًا بعمليّة باطنيّة غير واعية. فعلى سبيل المثال: أُعرّف نفسي باعتبار أنِّي أكاديميَّة، إلَّا أنَّ هذا يُشْعرني بأنَّني يجب أن أكُون دائمًا ذكيّة، وعلى دراية بجميع المواضيع المتَّصلة –من قريب أو بعيد- باختصاصي، وبأنَّه يجب أن يكُون عندي جواب لجميع الأسئلة المتعلِّقة به، وهذا مستحيل. فأنزلق في حالة عدم ثقة وقلقٍ دائمة، لأنَّني أشعُر بأنَّني غير مؤهّلة لدوري الَّذي هو "أنا". وأيضًا أقُوم بمحاولة تغطية هذا الشُّعور بالتَّصرُّف الدَّائم كأكاديميَّة، إلى حدٍّ قد يُشْعر الآخرين بأنَّني متكبّرة ومتحَذْلقة. وهذه هي أوصاف الأنا المتضخِّمة لدى الأكاديميِّين/ات.

أيضًا قد أُعرّف نفسي باعتبار أنَّني غنيّة؛ فأحتاج إلى إظهار غِنايَ للجميع -ولنفسي- في كلّ المواقف. فأُصبح متباهية متفاخرة بمالي وممتلكاتي، وكأنّ ما أملكه هو قيمتي. وهذه هي الأنا المتضخِّمة لدى أصحاب المال والجاه. وقد أُعرّف نفسي بطبيعة منصبي؛ فأحتاج دائمًا إلى التَّشبُّث به، والجلوس في المقاعد الأماميَّة في أيِّ احتفال، وإلى أنْ أُذكّر النَّاس بِـ"مَن الذي يتحدَّثون معه". فأُصبح متعاظمة متكبّرة. وهذه هي الأنا المتضخِّمة لدَى أصحاب المناصب... كلُّ ذلك بحسب الكاتب الفرنسي؛ لأنَّني -دون هذا التَّعريف- أشعُر بأنَّني لا شيء، لِكَوني لا أستطيع تعريف الأنا العميقة، الَّتي لا يمكن لأحد حصر ماهيَّتها.

أظنُّ أنَّ ما نُعانيهِ اليوم من مشكلة "الهُويَّاتيّة"، هو وجه آخر لنفس الموضوع. فلأنَّني لا أستطيع أن أُعرّف نفسي العميقة؛ أُعرّف نفسي أيضًا بانتمائي إلى جماعة. ولا مشكلة في ذلك، بل على العكس. فمِن الضَّروري أن يعترف كلُّ فرد بانتماءاته الثَّقافيَّة أو الإثنيَّة أو الدِّينيَّة أو المناطقيَّة؛ إذ إنَّ هذه الانتماءات تؤثِّر في كلٍّ منَّا، وهي الَّتي تشكِّل جزءًا من كينونتنا وهُويَّتنا. إلَّا أنَّ الهُويَّة (identité) قد تنزلق نحْو الهُويَّاتيّة (identitarisme) وهي الأنا الجمعيَّة المتضخِّمة. فالهُويّاتيّة تَنظر إلى الانتماء الخارجيِّ للشَّخص، بدل النَّظرِ إلى داخله أو كنهه. فتُركِّز على الانتماء الثَّقافيِّ أو الإثنيِّ أو الدِّينيِّ للأفراد وللجماعات، وتُضخِّمه.

الهُويّاتيّة -إيديولوجيًّا- ظهرَت وتوسَّعَت في القرن العشرين في أوروبّا، إلى أنْ عُدَّت مِن أهمِّ أمراض القرن الواحد والعشرين. وهي تُركّز على الخصوصيَّة الثَّقافيَّة لكلِّ جماعة، وتُضخِّمها. فترى أنَّ هذه الجماعة لا تتطوَّر بتفاعلها مع غيرها، بل بالعكس، تزدهر فقط إذا بقيت بنفسها. وحالة الهُويّاتيَّة هذه، هي حالة مضادَّة للعولمة وللتَّعدّديَّة، يتشبَّث فيها الأفراد بهُويَّتهم، ويعتبرون الآخرين -أي الذين يُعرّفون أنفسهم بهُويَّة أخرى- تهديدًا لهم، ويظنُّون أنَّ عليهم دائمًا حماية هُويَّتهم والدِّفاع عنها. فيَفقدون الحسَّ بالتَّضامن الإنسانيِّ، وبالشُّعور بالآخرين المنتمين إلى جماعات أخرى. وهذا يفسِّر اليوم انتشار الشَّعبويَّة في أنحاء العالم كلّه، حيث يقوم قادة سياسيُّون باستثمار هذه الهُويّاتيّة لرفع شعبيَّتهم. فيُجيّشون تابعيهم ضدَّ الآخر (المهاجر، أو اللَّاجئ، أو المختلف دينيًّا أو ثقافيًّا أو إثنيًّا...)، ويصبح هذا الآخر سببَ أيِّ فشلٍ أو تَراجُع، أو عدمِ ازدهار للأنا الجمعيَّة.

الهُويّاتيّة كما الأنا المتضخِّمة، نابعة من خوف عميق لاواعٍ من اللّامُعرَّف في أنفسنا، ومن الحاجة أيضًا إلى تسكين هذا الخوف، بالتَّشبُّث بتعريفات فرديّة وجماعيّة. ولو وعَيْنا هذا الخوف وواجهناه، لَأدركْنا أنَّنا جميعًا نُعانيهِ، وأنَّه من غير المُجْدي أن نحاول ستره، بل يمكننا تَخطِّيه بإعطاء وجودِنا معنًى حقيقيًّا، لا معنًى خارجيًّا نَحمله كدِرع، بل معنًى نَصنعه بعمل البرّ والخير على هذه الأرض.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive