الرجوع

هل من موقف ثالث للخروج من الثنائية القاتلة؟

الثلاثاء

م ٢٠٢١/٠٣/٠٢ |

هـ ١٤٤٢/٠٧/١٩

اِنقسام حادٌّ يمزق مجتمعاتنا ومنطقتنا، ويقتل أولادنا ويشرِّد ناسنا ويدمّر إنسانيتنا، مِن جرَّاء الصراع بين حلف خليجي أميركي وحلف إيراني روسي، وبين مَن يَتبعهما أيضًا. انقسام له أبعاده الجيوسياسية والدينية والإيديولوجية والاقتصادية والوجودية؛ ما يجعله يستحوذ على عقولنا ومشاعرنا وكياننا، ويُشعرنا بأن لا مفرّ منه، وأنَّ على كلّ منّا أن يُوالي طرفًا منهما.
قوّة كلّ طرف ليست فقط بالعَتاد العسكري أو الاقتصادي أو الجيوش الإلكترونية التي تدافع عن كل موقف، ولكنها بأعداد الناس العاديين الذين يدافعون عنه. لذا، أَكتب لأقول للناس العاديين مِثلي -لا للمسؤولين العسكريين أو السياسيين أو الأمنيين-: إننا لسنا مُلزَمين/ات اتِّباعَ أيٍّ من الخيارَين بكلِّيَّتهما. يُمْكن أن نتفق مع طرف منهما بأمر، ومع الطرف الآخر بأمر، أو نرفض بشكل قاطع تصرفات الطرفَين كِلَيهما. فليس علينا أن نبرّر مواقف أيِّ طرف منهما، خصوصًا إنْ كانت منافية لمبادئ حقوق الإنسان، أو للتضامن الإنساني الأوَّلي، أو للمنطق. وللقيام بذلك، علينا الانسحاب قليلًا –أو كثيرًا- إلى الخلف، لننظر إلى الصورة بشموليتها، ولِنَتذكر ما جعلنا نَصُفّ مع هذا الموقف أو ذاك في الأساس. 
أظن أن ما يدفعنا عامّةً إلى مناصرة موقفٍ ما هو المبادئ، فنختار فريقًا سياسيًّا أو محورًا جيوسياسيًّا على أساس المبادئ التي يجسدها؛ إنما مع الوقت تختفي صورة المبادئ، خلف تعقيدات المواقف والاصطفافات والأولويات الإستراتيجية والتكتيكية، وخلف خطاب موجَّه إلى المناصرين/ات يركّز على شحن المشاعر، وأهمها الخوف: الخوف من الآخر، والخوف على مجموعتنا من الاضمحلال، والخوف على مكتسَباتنا مِن أن تَضيع.
لذا، علينا أخذ خطوة إلى الوراء، لاسترجاع المبادئ التي دفعَتنا إلى هذا الطرف أو ذاك، ومِن ثَمَّ يجب أن نتذكر أن هذه القيم والمبادئ لا تتجزأ، ولا يمكن أن تكون استنسابية أو تكتيكية. فإنْ كنتُ ضد الاستبداد، فلا يمْكن أن أكون ضد استبداد طرف ومع استبداد طرف آخر في الوقت ذاته. وإنْ كنتُ مع الازدهار، فالازدهار عملية شاملة، ولا يمكن أن يحصل على حساب قضية شعبٍ تاجَرَ الجميع فيها. وإنْ كنتُ ضد الظلم، فلا يمكن أن أقْبَل ظُلمًا من أحد استثنائيًّا، وإنْ كنتُ مع الحقِّ في الحياة البشرية، فلا يمكن أن يَدْمَى قلبي لموت شخص، ثم لا يَرُفُّ لي جَفن لموت آخر أو أعداد من البشر.
الانقسام اليوم بين الطرفَين ليس مبدئيًّا. فبِاسْم مبادئ معيَّنة، يقُوم كلا الطرفين بوأد مبادئ أخرى، بتحالفاتهما وسياساتهما وحروبهما. هذا الانقسام هو قبل كل شيء هُوِيَّاتي، يلعب على مشاعر الانتماء والدفاع عن الهوية والتخويف من الآخر، ولا يطُول عامَّةَ الشعبِ فقط، بل يطُول كبار المثقفين/ات الذين ينجرُّون إلى الدفاع عن هذا الطرف أو ذاك، أو تخوين هذا الطرف أو ذاك. ويتغذى الانقسام بسرديات متناقضة نَسمعها في كل نشرة أخبار، إنْ قارنَّا بين النشرات الموالية لِأَيٍّ مِن الطرفَين؛ ما يجعل الانقسام أكثر حدّة، لأنه يحبس كل طرف في فقَّاعة مُفلتِرة، لا يَسمع فيها إلا سرديّة طرفِه. ومع الوقت، يصبح كل طرف لا يُضفي صفة الإنسانية إلا على طرفه، وأيضًا لا يضفي صفات الفهم والمروءة والقيم والمبادئ، إلا على من هو/هي على نفس مَوقفه.
لو كان الانقسام دفاعًا عن مبادئ، لكان الطرفان ومُوالُوهُمَا قاما بنقدٍ ذاتي لِانزلاق خَطَّيْهما، ولَكانَا اعترفا بدور كلٍّ منهما في قتل الأطفال وتجنيدهم، وتهجير الناس وتفقيرهم، وحِرمانهم أيَّ نوع من الأمل.
مِن هذين الخطَّين اللَّذَين يقومان بمعركة نهائية على أراضينا العربية، والتي ستؤدي حتمًا إلى مزيد من الخراب، ومزيد من العنف والدمار - يُمْكن لخط ثالث أن ينمو. 
هذا الخط الثالث ليس جهةً سياسية، وليس عنده جيوش ولا عتاد، ولكنه موقف ضميري، مبني على قيم شاملة غير مجتزَأة وغير مُساوِمة. 
إنه مَوقف يركّز على قدسيّة الحياة البشرية، فيَرفض القتل والحروب التي تستنزفنا.
إنه موقف يشدّد على قدسية الكرامة الإنسانية، فيبقى مدافعًا عن القضية الفلسطينية حتى آخر رمق، ويرفض كلّ نوع من أنواع الاستبداد الذي يجرّد الناس من كراماتهم.
إنه موقف يؤكّد قدسية حقوق الإنسان، ويرفض كل نوع من أنواع فساد الطبقات الحاكمة، التي تُجرّد الناس من أبسط حقوقها.
أنا مع هذا الموقف الثالث، مع القضية الفلسطينية، ومع الطفل اليمني، ومع الحرية من كل استبداد، ومع احترام قدسية حياة كل فرد، ومع حرية الفكر والضمير والمعتقد؛ ولن أتخلى عن أيٍّ من هذه المبادئ لِأُناصِر طرفًا ما.
 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive