الرجوع

اللجوء بين التعوُّد والكرامة الإنسانيّة

الأربعاء

م ٢٠١٨/١٢/٢٦ |

هـ ١٤٤٠/٠٤/١٨

يشاهد المرء في كثير من أحياء بيروت وغيرها من المدن اللبنانية، نساءً وأطفالًا، يبيعون المارَّة وركّاب السيارات منتوجاتٍ بسيطةً كالمناديل الورقية والعلكة، أو يسألونهم صراحة صدقةً تُعينهم على مواجهة المتطلبات الضرورية للحياة. آخرون امتهنوا فرز نُفايات الحاويات، بحثًا عن كلِّ ما يمكن بيعه أو الاستفادة منه، من زجاج ومعادن وورق وغيرها، في فعلٍ بِيئيِّ الأثر، عجزت عنه حتى هذا اليوم الجهات المخوَّلةُ القيامَ بذلك!

أغلب هؤلاء النساء والأطفال، هم من اللاجئين السوريِّين الذين أتوا إلى لبنان بعد سنة 2011؛ إذْ دفعت بهم صعوبة أحوال لجوئهم إلى هذه الوسائل، لاكتساب ما يمكّنهم من الاستمرار. منهم مَن دُمِّر منزله وهُجّر قسرًا من موطنه، ومنهم مَن خسر في سوريا أبًا أو زوجةً أو ولدًا. فأعمال القتل والاعتقال والخطف، طالت بيوتًا كثيرة هناك.

كثيرون من المارّة يعاملونهم بلطف وسخاء لافِتَين، وآخرون يُظهرون تجاههم عِدائيّةً واشمئزازًا، ولكن بعضهم الآخر يكتفي بتجاهلهم تجاهلًا تامًّا. وهذا يذكّرني بما قاله يومًا واحدٌ من معلِّمي الحياة الروحية، من أن "العادة تَقتل"، بمعنى أنّ تَعوُّد الأمر يُفقد المتعوّد القدرة على الإحساس الفعلي به، كمِثل ضحايا الحروب من قتلى وجرحى، حيث يثيرون مشاعر وانفعالات شديدة في نفوس المتابعين لأخبارهم أول نشوء الحدث، ثم يأتي التعوُّد ليُحوّل الضحايا إلى أرقام عابرة، ويقتل هذه المشاعر والتأثيرات.

من جهة أخرى، يفسّر بعض المطَّلعين على نظريات علم النفس هذا "التجاهل"، بأنه آليّة دفاع نفسية تحمي الإنسان من عواقب التأثر الشديد، أمام واقع سيِّئ لا يملك ما يكفي لتغييره، أو يفسّره بالخوف من رؤية أنفسنا مكان هؤلاء المتسوِّلين.

من المفهوم في هذا السياق، أن حقيقة وجود شبكات منظَّمة تستغلُّ أطفالًا ونساءً لتشغيلهم قسرًا في التسوّل، يجعل الناس حذرين من التعاطف مع المتسولين، رغبة منهم في عدم تشجيع استغلالهم.

على أي حال، مع الإقرار بوجود مبادرات فعّالة، وأصحاب النوايا الحسنة وتأثيرهم الإيجابي، يبدو أننا اليوم نفتقد أمثالَ الأب عفيف عسيران، الكاهن اللبناني الذي لم يسمح لاعتياده رؤية الأطفال المشردين، بقتل مشاعره أو رغبته في مدِّ يد العون والمساعدة لهم. فكرّس جزءًا مهمًّا من حياته لتأمين كلِّ ما يكفل لهم ما يستحقُّون، من مأوى ومأكل وتعليم، ويحفظ كرامتهم الإنسانية، مُقدِّمًا بذلك خدمة جليلة لهم ولبلدهم، دون أن يبحث من وراء ذلك لا عن مجد ولا عن مال.

بين حالات العوز الفعلي بين اللاجئين السوريين، واستغلال معاناتهم لتشغيلهم في التسوّل، يتزايد في هذا الوقت -بل منذ شهور- الحديث بِـ"العودة الطَّوعيّة" لِلَّاجئين السوريين إلى بلدهم، بعد أن استَتبَّ الأمن فيه في عُرف الداعين إلى هذه العودة. أعداد لا تبدو كبيرة من هؤلاء، عادوا من لبنان إلى بلدهم، بعد أن رأوا أن هذا هو الخيار الأفضل لهم؛ بِناءً على ظروفهم والمعطيات المتوافرة لديهم، في حين فضّلت غالبيتهم البقاء في لبنان حتى إشعار آخر.

تفيد الانطباعات الناتجة من الاحتكاك بهؤلاء اللاجئين، والحديث إليهم، ولَمْس معاناتهم، أنهم لا يثقون بعودة الأمن إلى مناطقهم، كتلك الثقة التي يملكها من يدعوهم إلى العودة. الأهمُّ أنّ قرارهم العودة، يرتبط ارتباطًا عضويًّا بتَوافُر سبل العيش وفرص العمل، التي تكفل لهم الحدَّ الأدنى من العيش الكريم. فما فائدة الأمن المفترَض إن كان كسب القوت الكافي مستحيلًا؟ ويدرك هؤلاء اللاجئون أن مقاربتهم هذه ليست مَبعثًا على السرور، لا لهم، ولا لمن يدعوهم إلى مغادرة البلاد والعودة من حيث أتوا.

اللجوء قضية إنسانيّة في المنزلة الأولى، رغم الإقرار الذي لا مهرب منه بأثرها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ولا يبدو القول بأن فقدان الأمن في الوطن هو المبرِّر الوحيد لِلُّجوء، قولًا يحترم الكرامة الإنسانيّة، التي تَمسُّها وتنتقص منها ظروفُ العيش شديدة السوء اقتصاديًّا.

اليوم في زمن الميلاد، صحيح أن يوسف -بوحي من الله- فرّ بمريم والطفل يسوع، لاجئًا إلى مصر، هاربًا من بطش هيرودس، الديكتاتور الذي لم يتورَّع عن قتل أطفال بيت لحم، لاعتقاده أنه يحافظ بذلك على مُلكه. لكن هيرودس اليوم، يتشكَّل أيضًا بصورة الفقر والجوع وفقدان الموارد وطرق كسب العيش؛ ما يجعل كرامة الإنسان منتهكة ومحلَّ خطر. وربما يمسي الكلام عن عودةٍ لِلّاجئين خارج هذا الفهم، مسًّا لكرامة الإنسان، الذي تعتقد المسيحية أن الإله تَجسَّد من أجله، ومن أجل الحفاظ على كرامته.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive