الرجوع

في لبنان: اعتقال فاتِّهام فموت تحت التعذيب

الجمعة

م ٢٠٢٢/٠٩/٢٣ |

هـ ١٤٤٤/٠٢/٢٧

اعتُقل الشاب السوري اللاجئ في لبنان "بشار عبد السعود" في منزله في مخيم شاتيلا في ضواحي بيروت، دون سبب واضح، ودون ورقة أو إذن قضائي. جرى التحقيق معه بحسب مصادر حقوقية دون حضور محامٍ، ليصار في اليوم التالي إلى تسليم جثته إلى أهله، بعد وفاته بسبب "نوبة قلبية" بحسب تقرير الجهاز الأمني المسؤول عن اعتقاله، في حين تداول ناشطون صورًا وفيديوهات تَظهر فيها آثار تعذيب شديد في جثة الشاب، الذي كان يتمتع بصحة جيدة.

جرى توجيه اتهامات بتعذيب الشاب السوري حتى الموت إلى قيادات وعناصر من الجهاز الأمني اللبناني، الذي تعرَّض فيما سبق لاتهامات شبيهة بهذا الشأن. فجاء رد الجهاز عبر بيانَين، أوضح فيهما من جهةٍ إنكارَه ممارسة التعذيب، وأنه وضع الأمر في عهدة القضاء، ولكنه من جهة أخرى أشار فيهما أيضًا إلى اعتراف الموقوف بالانتماء إلى تنظيم داعش. 

إنَّ الاحتجاج باعتراف متهم ما بالانتماء إلى داعش، في خضم النقاشات التي تدور حول ممارسة التعذيب حتى الموت، هو ربطٌ لا يبدو بريئًا أو عفويًّا، ولكنه  أتى بنتائجه المتوخاة؛ إذ شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلًا كبيرًا داعمًا للجهاز الأمني مِن قِبل مواطنين/ات لبنانيين، حتى من غير لبنانيين، تحت عناوين من نوع: "هل تدافعون عن داعشيٍّ؟"، "اتركوه ليذوق ما فعله الدواعش بالناس الأبرياء".

أسئلة وأفكار كثيرة تُثار في مثل هذه الحوادث، أبرزُها تأكيد أن التهمة والاعتراف لا قيمة لهما دون مسارٍ حقوقيّ قضائي نزيه، لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. بعدها يأتي السؤال حول دَور التعذيب في التسبب بنوبة قلبية، وحول القيمة التي ينالها أي اعتراف أُخِذ تحت التعذيب، بل أكثر من ذلك: "إنِ افترضنا أن مضمون الاعتراف حقيقي، فهل يجوز حرمان المتهم حقوقه الأساسية بصفته إنسانًا؟ وهل يُسمح باستعمال أساليب محرمة دوليًّا كالتعذيب، لانتزاع اعتراف من المتهم هنا أو معلومة ما من هناك؟".

إلى جانب المعاهدة الدولية لمناهضة التعذيب، والقانون اللبناني، ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي شارك لبنان في وضعه صراحة ومباشرة في مادته الخامسة على الآتي: "لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة". إنه نصٌّ واضح مباشر لا لبس فيه ولا استثناءات. فالتعذيب مرفوض ومُدان، ولا يجوز استعماله بحق أي إنسان تحت أي ظرف، ولأي سبب كان.

حين تُدرَّس حقوق الإنسان في بعض المقررات الجامعية، يُستعمل أحيانًا مثال يطرح إشكالية استعمال التعذيب. مُفاد المِثال: قُبض على إرهابي اعترف بزرع قنبلة ستنفجر بعد ساعة في مدرسة للأطفال يرفض الكشف عن اسمها. يأتي السؤال المعضلة: "هل يجوز تعريض الإرهابي للتعذيب من أجل انتزاع اسم المدرسة منه وحماية الأطفال من الانفجار؟".

صحيح أنه مثال قاسٍ ومتطرف، وقد يقف أمامه أكثر المؤمنين بحقوق الإنسان حائرين فيما يفعلون إن حدث ذلك واقعيًّا، لكن أصول حقوق الإنسان تصرِّح مباشرة وبوضوح، بأن قبول إجراء التعذيب في هذا المثال -على استثنائيته- يُعتبر "منزلَقًا"، وقد يؤدي -بالممارسة وبمرور الزمن- إلى قبول فعل التعذيب لأسباب أخرى أقل خطورة. إنَّ فتح هذا الباب مرة واحدة قد يؤدي لاحقًا إلى وصول الأمر إلى ممارسة دائمة تتكرر لأسباب واهية.

الأهم فيما سبق، هو أن الكرامة الإنسانية الأصيلة في كل إنسان -مهما كانت جنسيته أو لونه أو دينه أو رأيه أو حتى جريمته- كرامة أصيلة، لا تتغير ولا تزول، حتى ولو لم يعترف صاحبها بها أو لم يدرِك وجودها، أو رفَضها. لذا، فإن الاعتراف بالكرامة الإنسانية يحتم علينا في معاملة الآخر -ولو كان مجرمًا أو إرهابيًّا، محتملًا كان ذلك أو مؤكدًا-، أن نأخذ بعين الاعتبار احترام كرامته الإنسانية الأصيلة، والمساوية تمامًا لكرامتنا.

بِغضِّ النظر عن المفارقة في الرأي القائل بأن التشجيع على تعذيب إرهابيٍّ ما يجعلنا مشابهين له في المنطق والممارسة، قد لا يقتنع كثيرون بـ"التنظير الحقوقي" الوارد آنفًا. لذا، قد يكون من الضروري التذكير بأن هذا التنظير يعكس القيم التي نبني عليها مجتمعنا، بل نميز أنفسنا بها ومن خلالها. إنه تنظير لا ينفصل في الواقع عن مصلحتنا بصفتنا أفرادًا وجماعات. فحقوق الإنسان ليست مبادئ حقوقية أخلاقية متعالية منفصلة عن الواقع، إنما هي في الحقيقة تحقيق فِعليّ لمصلحتنا، وهو ما قد يكتشفه المرء بعد فوات الأوان. ولعل حكاية القَسِّ الألماني تُمثل بشكل جليٍّ هذا الأمر، وذلك أن السلطات النازية عندما كانت تقوم باعتقالات وتنكيل بحق اليهود، ثم الشيوعيين، ثم الغجر والمثليين وغيرهم، حافَظ القس وجماعته في كل مرة على صمتهم وحيادهم، حيث وجدوا في ذلك تأمينًا لخيرهم الفردي، وربما هلَّل بعضهم للاعتقالات والتنكيل بحق أولئك المختلفين عنهم. لكن القس يُنهي روايته بقوله: "وعندما أتوا للتنكيل بنا نحن، لم يكن قد بقي أحد ليرفع صوته ويدافع عنا".

ما يمكن أن يزاد على هذا النقاش، هو أن كلًّا من العنصرية والطائفية والوصم قد يسهل في حالات مماثلة خرق حقوق أساسية للإنسان، وتسويغ التعذيب. فلون البشرة والجنسية والدين والطائفة والتهمة المفترضة، كلها جوانب تتضافر معًا لتجعل التعذيب أمرًا مقبولًا لدى كثيرين، بل فعلًا ضروريًّا بحجة حماية المجتمع. فيا ترى، إن كان الشاب المتهم لبنانيًّا غير مسلم مثلًا أما كان من أمر بتعذيبه ومارسه قد توقف ليفكر مرة أخرى قبل اتخاذ خطوة مماثلة؟!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive