الرجوع

كيف يبدو الوباء مِن خلف الجدار؟

الخميس

م ٢٠٢٠/٠٤/٢٣ |

هـ ١٤٤١/٠٩/٠١

"أغلقتُ باب المنزل، وأشعلْتُ ما تَبقَّى من بَخُور أمْلِكه، وقُمتُ مقتصدًا أوزِّع الدُّخان بين تَعرُّجات غرفتي الصغيرة. قيل لي إنَّ البَخُور مادة جيِّدة للتَّعقيم، في حال كان الوصول إلى الوسائل الأخرى غيْر ممكن. طلبتُ من زوجتي وصغاري الثلاثة عدم الخروج من البيت بسبب الوباء، الذي أثار الرعب في كلِّ مكان. قضَينا يومَين كاملين حتى نَفَدَ الطعام في المنزل؛ ما اضطَرَّنِي بَعْدها إلى الخروج، لمواجهة وباءٍ أسوأ من كورونا: الجوع. ثم إنَّ الأشغال اليومية المتواضعة اختفت من سوق المدينة، وصِرْنا نقضي أيَّامنا بين وباءَيْن".

وصلتني هذه العبارات من أحدهم، بعد مشاركتي إيَّاه في قائمة التدابير الواقية من فيروس كورونا، وكأنّه يقول من خلالها: نحن نريد أن نواجه المرض، لكنَّ ما نعيشه من الجوع والحرب والمعاناة، جعلنا غير قادرين على المقاومة ولو بعض الوقت. فقد كشف الوباء هشاشةَ وضْعِنا، وغِطاءَ الستر الذي كنا نتدثَّر به. والتعفُّفُ الذي دفَعَنا سنواتٍ عِدّة إلى عدم مدِّ أيدينا، بات يَتركنا بُطونًا خاوية في زوايا بيتنا. وأيضًا إنْ مدَدْنا أيادينا، فلن نَجِد أَكُفًّا سخيَّة تُعطي؛ إذ أغلَقَ الهلعُ أبوابها، دون أن تَطُولَنا.

يُواجِه العالَمُ وباءً، ويواجه فيه الفقراءُ وباءَيْن. وفي مناطق الحرب، يضاف إلى ذلك أوبئةٌ أخرى. إنَّ معظم التدابير المتداوَلة تخصُّ وباءً واحدًا مستجِدًّا، وتُسنَد إلى فرضية أنَّ الجميع بخير قبل كورونا، أيْ أنَّ لديهم القدرة على البقاء في المنزل، أو تحويل أعمالهم إلى الفضاء الرقمي. لكنَّ الوباء أماط اللِّثام عن شريحة واسعة من الناس في مناطق حوْلَنا، جُلُّ أمنيَّاتهم تتلخَّص في النجاة اليومية من وباءَي الجوع وعدم الأمن، وتتوقف حياتهم كلِّيًّا إنْ توقَّفوا عن الركض في سبيل تحقيق تلك الأمانِيِّ البسيطة. إلى جوار ذلك، بعضهم لا يمتلك حتى رفاهِيَة الحصول على مياه نظيفة، لِكي يغسل يديه عشرين ثانية، ويمنع عن نفسه وصول كارثة جديدة.

يتبدَّى الوجه الآخر للمأساة، حين نُغلق أبواب بيوتنا، ويَغيب عن أعيننا رؤية المحتاجين، وتَضْعف لدينا القدرة على تَخيُّل حجم المأساة، التي يعانيها مَن فقَدُوا أماكنهم في الأسواق والشوارع، حيث يدفعنا السلوك الغريزي الطبيعي إلى الاهتمام بشؤوننا الخاصة. ودون وعي، نصبح خلف الجدران في منفانا الداخلي، لا ندرك حجم المأساة القابعة خلف جدران مُجاوِرة، ويصبح العزل الاجتماعي الذي يحمينا من الوباء، عُزلة وبائيَّة كاملة لمن اختفَوا من شوارعنا، إلَّا أنَّ مأساتهم وجوعهم وحاجاتهم لم يَختفُوا. وهنا، تَبرز الفردانية على حساب التضامن الجمعي، والهمِّ المشترك.

في أُسطورته "الطاعون"، يتحدث ألبير كامو بمدينة وهران، التي غزاها وباء الطاعون، ووصل فيها إلى كلِّ أركانها. يَطرح كامو في تفاصيل الرواية مسألة الوباء، باعتبارها تجربةً مجتمعية مشتركة، لا عبْئًا فرديًّا. ففي أزمنة الوباء لا توجد مصائر فردية، بل مصيرٌ جماعيٌّ فقط، مصنوع من الطاعون والمشاعر المشتركة بين الجميع. ومع انتشار الكارثة، تتقلَّص فرص النجاة الفردية، إلَّا أنّها تذكِّرنا بأنَّ أولئك الذين يجابهون المرض، ويسعون إلى التخفيف من آثاره لدى مَن يعانون، هُمْ أصحاب الأرواح الممتلئة بالقيم الإنسانية النبيلة. ووَحْدهم الأنانيُّون–الأشرار، مَن يفترضون أنَّ الوباء ليس خطرًا مشترَكًا، بل فرديًّا، لا بل يستغلُّونه لمصلحتهم الخاصة.

تُمثِّل هذه الفترة الاستثنائية التي نعيشها، اختبارًا حقيقيًّا لتضامُنِنا، واستعدادِنا للوقوف إلى جوار بعضنا بعضًا، ولو مِن خلف جدران المنازل. ولِكَون هزيمة الوباء على المستوى الفردي تتوقف على مناعتنا الذاتية، وقدرة نظامنا الداخلي على فرز أجسام مقاوِمة؛ فإنَّ هزيمته على مستوى بلداننا، تتوقف على مدى مناعتنا الاجتماعية الكلية، وعلى قدرة نظامنا الأخلاقي والقِيميّ على تجاوز الفردانية، والعبور إلى التضامن والتعاون والتعاضد. فالوجه الآخر لكارثة الوباء، هو سلْبُ رصيدنا من الشعور الإنساني تجاه مَن حَوْلنا.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive