الرجوع

الدكتاتور الذي لا يسكن القصر

الثلاثاء

م ٢٠٢٢/٠٣/٠٨ |

هـ ١٤٤٣/٠٨/٠٥

الدكتاتور في جوهره ليس سوى رمز يجسد شبقنا المفرط بشخصية الرجل العظيم، الرجل المتمتع بالقوة، القادر على البطش، والمهووس بحيازة الكمال العنيف الذي يعوض النقص الكامن في ملايين الأتباع. 

دعونا نستطلع عشرات النقاشات التي نشهدها يوميًّا، لنفتش عن ملامح الدكتاتوريات التي تحتشد في ذهنيات الناس وتصوراتها. ثمة صفوف من الشخصيات المستبدة تأتي تباعًا. ترتصف في ثنايا الحديث رموزًا واقعية تلخص رؤيتنا للواقع، وما الذي يجب أن يكون عليه الإنسان. كل الأسماء التي تلطخت أيادي أصحابها بالدماء، وجعلت قيم الإنسان تحت قدميها، من أجل أهداف النفوذ والسيطرة، يجري إعادة إنتاج شخصياتها باعتبارها رموزًا مدهشة، ويعاد أيضًا تبييض أفعالها أثناء سرد سِيرها. ومعها تتلبس الواقعية بِلبوس القوة والموضوعية، وتُشيطن المثالية/الأخلاقية باعتبارها رمزًا للضعف الذي يجب أن ننبذه.

"أريد حاكمًا قويًّا يضربني ويدافع عني"، عبارة سمعتها من أحدهم وهو يضع مواصفات الحاكم النموذجي. "نحن شعوب لا تنفع معنا الديمقراطية، فهي وأدواتها أس الشرور"، عبارة أخرى قالها لي أحدهم في معرض نقاش عابر، وهو يسرد فترات استقرار بلده التي أنتجها دكتاتور. "نريد المستبد العادل، سلطان الغلبة الذي يحفظ الدين والأمة"، كانت عبارة لأحدهم وهو يجيب عن سؤال: "ما الحل لما تعانيه بلداننا؟". 

هذه العبارات وكثير غيرها صارت ذات شعبية كبيرة، نسمعها دائمًا، ويقتنع بها بعضهم لكونها تقدم حلولًا للأوضاع المزرية التي نعيشها. عزز هذه القناعات الأحداث التي يشهدها العالم، الذي تتوسع فيه دائرة الديمقراطيات المجروحة، وتتسع فيه دائرة الدكتاتوريات المعلنة والمتلبسة بنسخ الديمقراطية الهجينة. رافق هذه الظاهرة حالة من رومانسية الافتتان بصقور الدكتاتوريات، باعتبارهم أمثلة للبراعة والدهاء والقدرة على الفعل، على عكس نظرائهم في الدول التي تنتهج الحكم التشاركي بوصفه طريقة صحيّة للحكم.

بعيدًا عن الحديث في مكيافيلية الدكتاتوريات، يبرز سؤال له علاقة بجوهر الولع المفرط بشخصية الدكتاتور، وكيف يُصنع بإتقان في مخيال العامة: "هل يتعلق الأمر بقدرة الأنظمة وأجهزة العلاقات العامة فيها على خلق صورة ذهنية مقنعة للدكتاتور، أم أن الأمر له أبعاد مختلفة؟ ثم ما سر هذه الرومانسية في التعاطي مع سِير الدكتاتوريين؟ ولماذا يبدو -مثلًا- مشهد دخول سرب دبابات عسكرية لاحتلال دول جارة أمرًا مثيرًا للإعجاب، بدل أن يثير السخط باعتباره كارثة تفتح بوابة الفوضى في جغرافية جديدة؟".

في مقالة مطولة نشرَتها على منصة سيكولوجي تودي، حاولت الدكتورة والأستاذة المساعدة في علم النفس "جين كيم" من جامعة جورج واشنطن، تقديم إجابة من الناحية النفسية حول سر هوس الكثيرين بشخصية الدكتاتور. فوجدت أن الرغبة في حيازة شخصية أبوية قوية، تقع على رأس أسباب التعلق بالشخصيات المستبدة؛ إذ أحد الاهتمامات الأساسية في الطبيعة البشرية، التي تجذبهم إلى فكرة وجود سلطة أو قوة أعلى، هو الحاجة إلى شخصية أبوية مثالية. سبب آخر لهذا الإعجاب يكمن في عشقنا للجانب المظلم منا، الذي تقيده مجموعة من القواعد الناظمة في المجتمع. لكننا نعجب بالشخصيات التي استطاعت كسر هذه القواعد. يشبه الأمر الاستمتاع بمشهد سمكة القرش الكبيرة وهي تلتهم صغار السمك، أو جولات المصارعة التي تجعلنا نصفق للقادر على إخضاع خصمه بقوة.

لكن أحد الأسباب الخفية، له علاقة بالشعور بالضعف أو عدم اليقين في حياتنا: "عندما يشعر الناس بنقص السيطرة في حياتهم، فإنهم يلجؤون إلى الشخصيات الخيالية أو منافذ الهروب، لاستعادة الشعور بالقوة وقوة الأنا. في بعض الأحيان يتحولون إلى الدين وشخصياته المثالية القوية، ولكن في كثير من الأحيان، يلجؤون إلى الشخصيات البارزة في حياتهم، سواء من المشاهير كانوا، أو من الأشخاص الذين يمتلكون الكاريزما والقوة. هؤلاء الأشخاص الجذابون هم أسياد الثقة الخارجية، وهي مطَمْئنة ومُعدية لأولئك الذين يشعرون بعدم الاستقرار أو عدم الأمان في أنفسهم" -بحسب الدكتورة كيم-. 

بكل تأكيد، أن هناك العديد من الأسباب ذات الطبيعة النفسية والاجتماعية والسياسية، التي تفسر هذه الظاهرة الذاتية المنشأ، والتي تجعل الفرد يتحول إلى عضو في جوقة تصفيق كبير للعديد من الدكتاتوريين، دون أن يضع في الاعتبار أن ذلك يأتي على حساب إرث القيم العقلانية، التي ناضلت شعوب العالم من أجلها. إن خطورة شخصية الدكتاتور التي تسكننا، تكمن في قدرتها على البقاء حتى وإن رحل الدكتاتوريون من القصور؛ إذ شخصياتهم الساكنة فينا تبقى ولا تموت. 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive