الرجوع

"عَطَوات" برعاية رسمية

الإثنين

م ٢٠٢٢/٠١/١٧ |

هـ ١٤٤٣/٠٦/١٤

لماذا يكون الدم هينًا إلى الحد الذي يُهرق فيه بسهولة؟ فالقاتل قد يكون لديه نزعات ساديَّة وصِفات استعلائية، ويقرر سلب الضحية حياتَها وكأنها محض شيء رخيص من أشيائه الخاصة. يا لها من فظاعة، تُحيل دماءَ الضحية إلى صورة تقفز من الشاشات والمواقع والهواتف، لتقيم في الذاكرة. 

جريمة مقتل الفلسطينية "صابرين التايه"، كما كل جرائم العنف الأسري السابقة. نجح قاتلها في تنفيذ جريمته الكاملة، فأحالها إلى صورة لا عزاء لها سوى بعض الأخبار والمقالات والهتافات، التي تروي دموع أبنائها الأربعة. وفوق كل هذا عَطْوةٌ عشائرية، تشبه فرقة الإنقاذ التي وصلت بعد فوات الأوان. 

صابرين التايه هي الإنسانة التي ضحت بالحرية والكرامة والحياة المستقرَّة، لأجل أن تبقى إلى جانب أبنائها. ومع كل الآلام والإهانات التي تعرضت لها، فقد كان من الصعب الذهاب بعيدًا في خيال أي قريب منها، إلى توقُّع هذا الحد من الوحشية، أو تصوُّر خاتمة لحياتها بهذه القسوة. وفي تفاصيل الجريمة التي وقعت خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، غرب مدينة رام الله في الضفة الغربية، أنه بعد 5 أيام من الإفراج عن زوج صابرين من قِبل الشرطة الفلسطينية، بعد اعتقاله على خلفية تجارة المخدرات، اتصل بوالدها مطالبًا بعودة زوجته إلى منزلها. فلمّا عادت الزوجة اتجهت إلى بيت والدة زوجها، وحينها بدأ القاتل بالصراخ والتهديد بقتل ابنه في حال لم تصعد صابرين إليه. وعندما قبِلت طلبه انقضَّ عليها، وقتلها أمام طفلها الذي كان قد سبقها في المجيء إلى منزل والده. 

وفي سعي وجهاء المنطقة لتهدئة النفوس وحقن الدماء في قضية مقتل صابرين، انتهت العَطوة العشائرية المتخصصة بجرائم القتل إلى دفع ألف دينار أردني فراش عطوة (أيْ يُدفع مقدَّمًا إلى ذوي المجني عليه قبل موافقتهم على العطوة العشائرية)، و70 ألفًا غيرها تُدفع إلى ذوي الضحية تحت بند "مصاريف". أيضًا نصَّ الاتفاق الذي توصَّل إليه الوجهاء والمخاتير على إجلاء أهل القاتل (أيْ إخوانه وأبنائهم) من القرية، ممن يحملون بطاقات الهوية، مع الإبقاء على النساء والأطفال في المنازل، التي يُمنع منعًا باتًّا بيعها أو التعرض لمن فيها، على أن تكون مدة العَطوة سنة كاملة من تاريخ 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2021.

طغيان الموروثات الاجتماعية والمؤثرات البيئية والثقافية، قد تمنح القضاء العشائري حق التحكيم في نزاع على إرث أو مشاجرة، لا في جريمة قتل! ثم إنه ليس هنالك نص أو قانون، يجعل القضاء العشائري مشروعًا، أو شأنًا يمكن الاختلاف فيه أو معه! والإشكاليات هنا كثيرة، وأولها غياب العدالة. نعم، ثمة ظلم يتمدد خاصة بحق الضحايا من النساء، والتاريخ مكتظٌّ بدمائهن المسفوكة. أيضًا هناك التباين الطبقي والجندري في تحديد مبلغ الدية، والذي قد يزيد أو ينقص بحسب جنس المجني عليه أو مكانته ومكانة ذويه الاجتماعية، فضلًا عن أنه بانتهاء فترة العطوة أو الهدنة المحددة، غالبًا ما تعود الجرائم، وربما بطرق أعنف أو أكثر بشاعة. 

إن بعض العشائر لا ترضى بالدية والإجلاء لذوي القاتل فحسب، بل قد تلجأ إلى ترحيل عشيرة القاتل كاملة وإبعادها عن المكان، في مخالفة صريحة لأحكام الدستور والحريات العامة، التي تكفل حق الأفراد في الإقامة والتنقل، إضافة إلى أن العَطَوات قد أصبحت واحدة من وسائل الابتزاز للحصول على المال، إلى جانب المَضارِّ المالية والحياتية التي تصيب بعض العائلات المتضررة من الإجلاء، والذي يُعتبر أحد أشكال الهجرة القسرية. ومما يجب عدم تجاهله أيضًا، أن كثيرًا من المُحكَّمِين ووجهاء عشيرة المجني عليه، يُجبَرون في أحيان عدة على التنازل عن حقهم الشخصي، وتخفيض عقوبة القاتل؛ ما يُعتبر تشجيعًا على ارتكاب المزيد من الجرائم. 

مشهد العطوة العشائرية هذا، لن يكون الأخير في سلسلة جرائم القتل، التي تزايدت وتيرتها في العقد الأخير في الأراضي الفلسطينية والأردنية أيضًا. ويَحضرني الآن خبر مقتل الشابة السورية "مريم" قبل أسابيع في العاصمة عمَّان، بطريقة وحشية على يد شاب أردني، بسبب رفضها الزواج منه. فهل يضيع حق مريم بِعَطْوة؟

إنّ ترابُط المصائر بين أطراف الجريمة فظيع ومخيف، والشواهد أكبر من طاقة أي إحصاء. فهل هناك ظلمٌ أشد وضوحًا وإساءة لسيادة القانون أكثر من ذلك؟

إزاء ذلك، وعلى امتداد حضور العشائر الفلسطينية والأردنية في التكوين الجغرافي والاجتماعي في البلدَين، لم تنجح المؤسسات المعنية في فرض هيبتها بالقانون، أو في عدم الانصياع للحلول العشائرية المتهاونة، والتي تُعزز ثقافة الإفلات من العقاب في الكثير من الجرائم، وتُبرز سطوة أصحاب النفوذ والمال، بل إنها اكتفت بقَوننة بعض الأعراف المعمول بها عشائريًّا. والسبب يعود إلى أن هيبة العشيرة قد تتفوق في بعض الأحيان على هيبة السلطات والتشريعات الوضعية.

على الدولتين ألَّا تتأخرا أكثر من ذلك في تعديل القوانين وفرض هيبة السلطات، بما يكفل العدالة للجميع. فالضحية سواءٌ ذكَرًا كانت أم أنثى، قد خاضت بالضرورة -وقبل أن تُسلب حياتها- معركةً مع الجهل والعنف، وهي لم ولن تُحسم بفنجان قهوة وصكٍّ ماليّ.  لكنه العدل، يستحثُّ فينا الصراخ والمواجهة، في حرب ندافع فيها عن الحياة والأمان والحرية، وننتبه فيها لفظاعة ما حدث ويحدث في الخفاء والعلن، وكأنما هذه البلاد لا تتسع إلا لمُحتلٍّ أو قاتل!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive