في الذكرى العشرية لاندلاع الاحتجاجات الشعبية في العديد من البلدان العربية المطالِبة بالتغيير، نقف وبأيدينا ذاكرة مثقلة بحمولة عشر سنوات من الأحداث الجسيمة، التي أعادت تشكيل المنطقة بشكل كلي. هذه التجربة الشعبية في حاجة إلى القراءة الواعية والموضوعية بشكل مستمر، والخروج من دائرة النقاش العبثي الذي عادة ما يبرز في كل ذكرى، والذي تكون مَحاوِره على سبيل المثال: هل كانت ثورة أم لا؟ وهل كانت صوابًا أم خطأ؟ وأيُّما أفضل: قبل أم بعد؟ وغيرها من الأسئلة التي تُعزز القراءة الاستهلاكية للحدث. وهي أسئلة لا تقودنا إلى المنطقة العمياء من النقاش فحسب، بل تحجب كنز المراجعات والتأملات في التجارب التي مرت، والتي قد تمنحنا فرصة للعبور إلى وضع أفضل، واختبار أدوات أكثر جدية في استنطاق الأحداث التي خبرتها الشعوب.
بعيدًا عن الاحتفالات بالحدث، التي تُقابَل بسخرية من قبل بعضهم، ولِكَون الواقع يستحق البكاء لا الاحتفال، نظرًا إلى المآلات التي وصلت إليها أوضاع الكثير من الدول، التي شهدت ميادينُها نصيبًا من هذه الانتفاضات؛ لا بد من إدراك مسألة مهمة، وهي أن الثورة أو الانتفاضة هي في جوهرها أداة تفكيك لمنظومة غير سَويَّة، بُغْية إحلال منظومة أفضل تعالج نقص سابقتها، أيْ أنها فعل عصيان جماعي مقترن برؤية. وأيُّ ضبابية في هذه الرؤية، تُحوِّل الثورة إلى حالة من الفوضى المستمرة. ثم إن عدم القدرة على تحقيق التغيير إلى الوضع الأفضل، يُحوِّل الثورة إلى شمَّاعة أخطاء ضخمة، تُعلِّق فيها الأنظمةُ المنتصرة كلَّ أخطائها على عاتق جمهور المحتجّين.
في عمق دوافع الاحتجاجات، ثمة مسائل مهمة لا بد من تسليط الضوء عليها. فجزء مما حصل كان تعبيرًا عن الفجوة الجِيليّة، وهذا الأمر لا يرتبط بالبعد العمري للفئات المحتجة فقط -وإن كان غالبيتهم من الشباب-، لكنه أيضًا يُعبِّر عن الأنماط الثقافية المختلفة التي يفكر فيها أفراد المجتمع. كان الطموح في الانخراط السياسي يتزايد لدى فئة الجيل الجديد، الذي وجد أن محددات حياة الجيل السابق لم تَعُدْ متسقة مع رؤيته للواقع. في المقابل، كانت قنوات المجال العام مغلَقة كليًّا أمام هذا النوع من التفاعل في المجال العام. ولذلك، ما إنْ برزت فرصة الخروج إلى الميادين، حتى رأينا أن معظم المنخرطين في هذه الاحتجاجات هم من الشباب. وقد شكلت وسائل التواصل الحديث مساحة جيدة لظهور ما يسمى بـ"الوعي الجِيلي"، وهو مصطلح أطلقه عالِم الاجتماع المَجري "كارل مانهايم"، ويَقصد به "إدراك مجموعة من الأشخاص من ذوي الاهتمامات المشتركة، وُجودَهم بين مجموعة مختلفة".
هذا الوعي الحديث لم يكن راسخًا بما فيه الكفاية، لكي يكون في أَوْعِية مؤسَّسية ترعاه. لذلك، كان من السهل أن تَحصد ثمرةَ هذه الاحتجاجات، الكياناتُ الصلبة الكامنة في المجتمع. وهي مجموعات تملك روابط أيديولوجية بين أعضائها، وتتمتع بقدرة كبيرة على الحشد والانتظام. وقد وجدَت في هذه الأحداث فرصة لحرق الزمن للوصول إلى أهدافها، التي في كثير من الأحيان تستند إلى فكرة الاستحواذ والاحتكار للمجال العام. فبدا لها مفهوم التغيير مقتصرًا على تغيير الشخوص لا المنظومات، ودأبَت بعض هذه الكيانات في تقديم نموذج، كان أسوأ من الأنظمة التي ثار الناس عليها.
في المقابل، كانت مقاومة التغيير أقوى بكثير من أن تقف أمامها أصوات ساحات المدن. ومع سطوة القمع، تسلَّلَت المظلوميات بوصفها كرة نار كبيرة نحو خطوط الصراع. كانت المنظومات الحاكمة، التي سدَّت طرق العمل السياسي بِخَرَسانات صلبة، تقوم بإخراس ألسنة المحتجين بِسَيل من الرصاص. قادت هذه السياسةُ إلى انكفاء سياسي جماعي للكثير من المنخرطين، إذ بدَت وكأنها اغتيال سياسي لابتسامة في مهدها. أما في بعض الدول، فقد تصدَّرَت الكيانات الصلبة مهمة المواجهة المسلحة، وتدحرجت الثورة لتصبح حربًا بلا سقف.
ما نعيشه اليوم، ليس المُنتَج النهائي لهذه الاحتجاجات؛ إذ ما زالت الأحداث في إطار التشكل اليوم، وغدًا، وبعد غد. لقد فتَحت الاحتجاجات حالةً من السيولة المفرِطة في بُنْية المجتمع وكياناته، ستظلُّ مفاعيلُها حاضرة بقوة في قادم الأعوام.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.
