الرجوع

من المتوسط إلى سماء كابول

الخميس

م ٢٠٢١/٠٨/٢٦ |

هـ ١٤٤٣/٠١/١٨

"ليس سيِّئًا أبدًا أن تمُوت

في مُقتبَل العمر

دون أن تَبلغ الثلاثين بعد

ليس سيئًا أن تغادر باكرًا أبدًا"

هذه قصاصة صغيرة، أخرجها الشاب السوداني "عبد الوهاب لاتينوس" من قلبه، ألْصَقها على حائطه، ثم سلَّم روحه لشبح الموت الجاثم قرب ضفاف المتوسط. كانت رحلة عبور، تَحطَّم مَركبُها قبل الوصول. لا بشر هناك، إلَّا الماء المالح، والأسماك رفقاء لحظة الوداع الأخيرة. لم أتعرَّف إلى عبد الوهاب عن قرب، غيْر أني قبل عام أقمتُ طقوس الحِداد بجوار صفحته، أتصفَّح خطَّه الزمني، وأتلمَّس حياة ما قبل الرحيل. هنا كان يضحك، هنا بكى، وهنا أحبَّ كثيرًا. وفي لحظة لم أرَهُ فيها، حمَل قلبه بيده ومات بعيدًا هناك. 

تذكرتُ عبد الوهاب بالأمس، وأنا أرى بعض الشبان الأفغان يحاولون التعلق بجناح طائرة أثناء الإقلاع. تَشبَّث مَن حالَفهُم الحظُّ بمَقابض جسم الطائرة، التي منحَتهم أملَ الحياة لحظاتٍ قليلة، قبْل أن تَلفظهم مِن فوق سماء كابول الحزينة. هذا المشهد ستُخلِّده ذاكرة ملايين البشر، في تجسيد مكثف لِما عجزت عن وصفه الكلمات. فهذه هي الجغرافيا غيْر العادلة، التي وجدها طفل أفغاني حين فتح عينيه للحياة، وهي الكوارث التي امتلأتْ بها أرضه، والفاشية الدينية التي لا ترى في الحياة أيَّ شيء سوى أنها معركة كبيرة لا تنتهي، وهي الدول التي تحشو كلماتها المنمقة بالرصاص والبارود لتُفخِّخ حاضرك ومستقبلك. وهذا هو النظام الدولي، الذي لا يراك سوى من ثقب وثيقة السفر التي تَحملها.

العالم الجميل الذي حلَمْنا بمشاهدة أرجائه يبدو ضيِّقًا جدًّا، وسقف السماء مغلَق، وليس لبعض الشعوب فيه سوى طائرات وأحلام من ورق. ها هو مشهد العالم يتجلى أمامنا أكثر وأكثر، يبدو مقسومًا إلى ضفَّتَين: دول للهروب في ضفته المكسوَّة بالشمس والغبار، وأخرى وِجْهات صعبة المنال. وما بينهما طريق طويل، وألْفُ حاجز مميت. ثم إنْ وصلْتَ، تَدفع عمرك لكي تُرمِّم جروح الطريق. 

هذا العالم يشهد أزمة قيم حادة. لن يُغيِّر مشهدُ الأرض التغيرَ المناخي أو الفيروسات العابرة، ولكن يُغيِّره غيابُ منظومة القيم، التي تبدو كلُّ أزمة طبيعية فيها أعراضًا جانبية لهذا الوباء. تَفحَّصوا خريطة العالم، ولاحِظوا الطبقية الكونية المعزَّزة جغرافيًّا. ثمة مجتمعات تعيش ولا تتردد لحظة في قول إنها تقود العالم، ومجتمعات أخرى عند الأبواب تموت.

نستطيع أن نتحدث بألف سببٍ قادت إلى هذه الكارثة التي نعيشها، والتي تجعل الهجرة ذروة طموح إنسان جغرافيتنا الظالمة والمظلومة في آنٍ. يمكن أن نقف لِنَتْلو فروض النصح والإرشاد، وهي أنَّ على كل شعب أو مجتمع أن يبحث عن نجاته بمفرده، وأن يناضل لكي ينجو، وألَّا ينتظر العالم ليحل مشاكله. يبدو هذا الحديث وجيهًا لناحية المنطق، لكنه -ضمنًا- يحوي مغالطة خفية، إذ يَفترض أن كلَّ مجتمع يعيش في كوكب معزول عن بقية المجتمعات، متجاهلًا تتمَّة مهمَّة.

نعيش اليوم في عالَم متصل، الحدود فيه لن تجعل الدول آمنة. ومنطق الأسلاك الشائكة لم يعُد حلًّا. الجزء الناقص في أحجيَّة الحل، هو المسؤولية الأخلاقية الدولية التي تزداد حصةُ كل مجتمع فيها، كلما امتلك قوة أكبر في الفعل والتغيير. هذه المسؤولية الأخلاقية هي أمر مختلف كلِّيًّا عن منطق المصلحة أو الأنانية التي تُتبع حاليًّا. لكن المفارقة، أنه بدلًا من قيام الكثير من الدول بواجبها الأخلاقي تجاه المجتمعات المتعطشة إلى التغيير، نراها تقوم هي نفسها بحراسة الشقاء ودعم رُموزه. 

أتذكَّر أنه حين بدأتْ جائحة كورونا، أغلَقَت الكثيرُ من الدول أبوابها، ووضعت الهوية الجغرافية على اسم الوباء. لكنها أدركَت لاحقًا عبثية الفعل، وأن الخطر الذي يواجهه فلاح في حقول سريلانكا، يؤثِّر بشكل مباشر فيمن يَسكن أبراج لوس أنجلوس. ثمة أوبئة عابرة للأقطار، تبدو فيها محاوَلةُ النجاة الفردية منها ليست فعلًا ساذجًا فحسب، ولكنه غيْر مُفيد مع مرور الوقت. أمّا الاستبداد والديكتاتوريات، فبعضٌ من تلك الأوبئة.

قبل عام، غرق "عبد الوهاب لاتينوس" في عُرْض المتوسط. وبالأمس، سقط شبان أفغان جُثثًا على أرض كابول. وعلى خُطاهم يرحل الكثير في طقس الهروب الكبير. والعالَم يَدفن رأسه في التراب، هروبًا من المشهد أو بحثًا عن مصلحة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive