الرجوع

"الإبراهيمية" بين السياسة والاستحواذ العَقدي

الأربعاء

م ٢٠٢١/٠٢/٢٤ |

هـ ١٤٤٢/٠٧/١٣

أثارت تسمية "اتفاقيات إبراهيم"، التي أُطلقت على عملية التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية بوساطة أميركية، كثيرًا من الرِّيبة والجدل حول مفهوم الإبراهيمية، ومحاولةِ توظيفه لتحقيق مصالح وغايات سياسية مرحلية! 
تتناقض الإبراهيمية "الحنيفية" مع كل من الإبراهيمية "السياسية"، التي تُسوَّق بوصفها ذريعةً لتسويغ الاحتلال والعدوان، والإبراهيمية "السُّلاليَّة العَقَدِية" التي تقوم على العِرق والمقررات العَقدية. فالإبراهيمية "الحنيفية" تُعبر عن روح التأمل العقلي في الوجود، والبحث العقلي عن الخالق الواحد، وتُقدِّم أنموذجًا حيًّا وفريدًا من يقظة العقل السببي، وشجاعة رفض الظلم، وتوجيه النقد، والمراجعة للثقافة السائدة. فمِلَّة إبراهيم تبدأ بالفكرة الحرة والرغبة في البحث عن الذات، جنبًا إلى جنب مع الابتعاد عن الجهل والعقائد السائدة المسيطرة، التي يتوارثها الناس دون وعي ولا تَدبُّر، كما في رفض إبراهيم عليه السلام لعقيدة تأليه الملوك وعبادة الأصنام والأفلاك، وقمع الحريات الدينية بِاسم عقيدة المجتمع: {قالوا حَرِّقُوهُ وَانصروا آلهتكُم إن كنتم فاعلين} [الأنبياء: 68].
تتجاوز الإبراهيمية "الحنيفية" الانتساب إلى إبراهيم، من نطاقه الجمعي القهري القائم على النَّسب والوراثة، إلى نطاقه الفردي الإرادي الذي يقوم على التفكر والاختيار. وهنا يمكن أن نفهم سبب عدم ذكر القرآن لموضوع "الختان"، الذي ارتبط بإبراهيم، وانتقل في التراث الديني اليهودي من علامة للعهد مع الله، إلى ذريعة لجعل الإيمان حكرًا على سلالة بعينها.
خلافًا لما تشير إليه بعض المَرويات اليهودية -كما في كتاب "مدراش رباه"-، إلى أن إبراهيم سيجلس أمام باب جهنم، ولن يَترك أحدًا من نسله المختونين يَدخلها؛ فإننا نجد رفضًا واضحًا من المسيح للنظرة "السُّلالية السطحية" لإبراهيم، كما في قوله: "ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم: لنا إبراهيم أبًا. لأني أقول لكم: إن الله قادرٌ أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (متى 3: 9). فالانتساب إلى إبراهيم يتمثل بالتزام عمل الخير والإحسان، الذي قام به إبراهيم. وهنا يقول المسيح:" لو كنتم أولاد إبراهيم، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم" (يو 8: 39). وهذا يتفق تمامًا مع نظرة القرآن إلى إبراهيم في وصفه له: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا واللَّه ولي المؤمنِين} [آل عمران: 68].
لم تقتصر مشكلة الاستحواذ على إبراهيم على الحالة اليهودية، وإنما شملت كل فئة تحصر الهداية والنجاة فيها. وهنا جاء انتقاد القرآن للاستئثار بإبراهيم مِن قِبل طوائف من أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين} [آل عمران: 67]. فالآية نزلت في اختصام بعض اليهود والنصارى ومشركي العرب في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أن إبراهيم لهم دون غيرهم. فالمقصود بالآية هو الخروج من الاحتكار العَقَدي لإبراهيم، وليس إعادة إنتاج شكل آخر من ذلك الاحتكار. 
في السياق ذاته نفهم قوله تعالى: { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإِنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون}. فالمسألة ليست نفيًا لصلة أهل الكتاب بإبراهيم، باعتبار تاريخ نزول التوراة والإنجيل بعد زمن إبراهيم. فهذا ينسحب كذلك على نزول القرآن الذي جاء بعد التوراة والإنجيل، وإنما تكمن المشكلة في المفاهيم الدينية القاصرة، التي تَقصر نسبة إبراهيم على فئة من الناس دون غيرهم! أيضًا يؤكد استمرارَ الخلل في فهم الإبراهيمية ما نجده من إقصاء داخل المنظومة الدينية الواحدة، كما في مقولة "الفرقة الناجية"، التي قصَرت الحق والنجاة على طائفة واحدة دون غيرها. وهذا يمثل إعادة إنتاج للسلالة المفاهيمية، كما في مقولة "شعب الله المختار"، ومقولة "لا خلاص خارج الكنيسة"، التي زادت من حدة "الغرور الديني"، وأشاعت العداوة والبغضاء بين أتْباع الدين الواحد. 
لقد أصبح إبراهيم الذي رفضه قومه، وسعى كثير من أتباعه إلى الاستحواذ عليه، مبارَكًا بين جميع الأمم (انظُر تكوين 18: 18)، وأصبح أبًا للمؤمنين جميعًا مسلمين ومسيحيين ويهود. فهو أبٌ لبني إسرائيل، وأبٌ لكل المسيحيين (انظر غلاطية 3: 28-29)، وأبٌ للمسلمين: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78]. وهو أنموذج من الإيمان بالإله الواحد مالك السماء والأرض، الإله العلي المرتفع (انظُر تك 14: 22)، السرمدي الأبدي (انظر تك21: 33). وإبراهيم هو "خليل الله" حسب ما تشير إليه الأسفار اليهودية في موضعين: (2 أخبار 20: 7 ) و(أَشَعْيا 41: 8)، وفي موضع واحد في العهد الجديد: "فآمن إبراهيم بالله فحُسِبَ له برًّا، ودعي خليل الله" (يعقوب2: 23)، وفي موضع واحد في القرآن الكريم أيضًا: {واتَّخذَ اللَّه إبراهيم خليلًا} [النساء: 125].
مِن أجمل المعاني التي تشير إلى مكانة إبراهيم عبارة: "حِضن إبراهيم"، الذي يدل على النعيم أو السماء، حيث تذهب أرواح الأبرار، كما في قول المسيح: "فمات المسكينُ وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم" (لوقا 16: 22). وهذا الحضن أكبر من أن تَستحوذ عليه قوًى سياسية أو مجموعة سلالية -مهْما كان اسمها-.
 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive