الرجوع

إنهم يَقتلون التعدُّدية

الأربعاء

م ٢٠١٩/٠١/١٦ |

هـ ١٤٤٠/٠٥/١٠

لم يَعُد التنوع في بلد مثل العراق، يزخر بتعدُّدية دينية أو قومية أو مذهبية أو لونيّة، أو مُرحَّبًا به لدى بعض مَن يُسمَّى بـ"قيادات" دينية أو سياسية أو مجتمعية. في المقابل، صارت حاجتنا الأساسية إلى الحفاظ على التنوُّع ضرورة، في وقت حوّلَته مجتمعات أخرى إلى مَصدر بِناء مجتمَعِيٍّ يَخلق بيئة مستقرّة، ويبني دولة مواطَنة حقيقية.

إن صوَر التنوع التي تتلاشى يوميًّا، في بلاد عُرفت بأنها واحدة من البلدان التي تزخر بالتنوّع، تُنذر بفقدان أهمِّ ثروة، وتُهدِّد بقاء أقلِّ المكوِّنات عددًا وأكثرِها تعرُّضًا للمخاطر. هذا لم يأتِ من فراغ، ولم يكن بعيدًا عن فتاوى وأحاديث أطلقها بعض "رجال الدين"، أصحاب الرُّؤَى الضيِّقة تجاه التنوع. وآخِر هذه الفتاوى، تلك التي أطلقها رجل دين عراقي اسمه "مهدي الصميدعي"، الذي "حرّم" الاحتفال بأعياد رأس السنة بشكل علنيّ أمام الناس. المشكلة ليست في الصميدعي، الذي نهل هذه الأفكار من معلِّميه وأساتذته أصحاب المدوَّنات التي لا تَقْبل الآخَر، بل في كيفية اعتمادها مِن قِبل بعض الناس على أنها الصواب. كانت هذه الفتوى رسالة خطيرة تُهدِّد التنوع.

في الوقت الذي نسعى وتسعى فيه منظمات ومؤسَّسات محلِّيّة ودُوَلية، للحفاظ على التنوع في العراق، وتبديد كلِّ مظاهر التهديد والقلق، تَظهر بين الحين والآخر مجموعات أو فتاوى أو وسائل إعلام، تحاول أن تصنع من هذا التنوع "تهديدًا"، وليس وَحْدة تَماسُك مجتمَعِيّة. فمنذ عام 2003 وحتى الآن، وبحسب إحصائيات غير رسمية، أنّ "أكثر من مليون عراقي من الأقلِّيّات الدينية والقومية غادروا البلاد". هؤلاء لم يغادروه بطَرًا، وإنما كانوا في حاجة إلى ملاذ آمِن، يتمكَّنون فيه من ممارسة حياتهم الطبيعية، دون أن يَنظر إليهم رجل دين أو متطرِّف على أنهم "كَفَرة". وقد تعزَّزَت هجرتهم إلى أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا عام 2014، عندما سيطر تنظيم "داعش" على مدينة المَوصِل، التي كانت مَنجمًا للتنوع والتعددية، وكأنها عراق مُصغَّر.

في الإعلام، عندما تجري مقابلة مع بعض رجال الدين والسياسة، نراهم يتغنَّون بالتنوع، ويحاولون بأيِّ شكل من الأشكال، إيهام المجتمع بأنهم من دعاة هذا التجانس بين المكوِّنات على اختلاف انتماءاتها، لكن الحقيقة عكس ذلك.

اليوم في العراق، لم يقف الحال عند الفتاوى أو الأحاديث التي تَبعث برسائل غير مطَمْئنة للمسيحيين أو الإيزيديِّين أو الصابئة أو غيرهم من أبناء الديانات الأخرى، بل هناك تهديد آخَر يتعلق بالممتلَكات العامة لتلك الديانات. ففي بغداد، هناك وثائق نشَرها النائب عن الديانة المسيحية "جوزيف صليوا"، تُشير إلى وجود عملية بيع مُمَنهجة لكنائس المسيحيين في البلاد، حيث تتحول هذه الكنائس والعقارات الأخرى إلى مجمَّعات تجارية ربحية، لأحزاب نافذة في الدولة.

الغريب أن هذه الوثائق وهذه الحقائق لم تلقَ أيَّ تجاوُب أو ردِّ فعل حكومي، وكأنَّ هُناك عملية مُمَنهجة يُراد من خلالها إفراغ العراق من محتواه الحقيقي وثروته الأساسية، أيِ التنوع. وفي بلدان عربية ليس فيها ثراء مثلما في العراق من ناحية التنوّع، نراها تعمل الآن على أن تَخلق التنوّع بأيِّ شكل من الأشكال. مثلًا: الإمارات بنَت معبدًا للهندوس، وكنيسة للمسيحيين؛ ليس لأن الإمارات تحتاج إلى الأموال أو المشاريع أو جذب أنظار العالم إليها، بل لأنها أيقنَت بأن التنوّع يبني دولة مواطَنة حاضنة، تؤسِّس لاستقرار مجتمَعِي حقيقي.

من الممكن أن نقول إننا قد لا نرى بعد عشر سنوات كنيسة في العاصمة العراقية بغداد، أو في أفضل الأحوال قد نرى كنيستَين أو ثلاثًا. يقول النائب المسيحي "جوزيف صليوا": "هُناك عمل مُمَنهج لتهديم الكنائس وبَيعها، خاصة تلك التي تقع في مناطق بغداد القديمة". إنّ المسيحيِّين وغيرهم ممَّن نُسمِّيهم "أقليات" -وهذه تسمية قد لا تكون دقيقة لاعتبارات عدَّة-، ربما لن يستطيعوا أن يعيشوا في بلد مثل العراق بعد ربع عقد من الآن. فهُم ما زالوا في مرحلة الحفاظ على وجودهم، وليس تعزيزه أو تحويله إلى ثروة حقيقية للبلد؛ لا لأنهم لا يُريدون ذلك، بل لأنهم لا يجدون بيئة قانونية أو سياسية تُساعد على ذلك.

نستطيع القول إن هناك مَن يَقتل التعددية في العراق، ويسعى لإبقاء العراق فقيرًا في تنوُّعه. إنَّ الثروة الحقيقية ليست النفط، ولا الغاز، بل ثروة المجتمعات هي التنوع الذي تعتبره الولايات المتحدة الأميركية أساسًا لوجودها. وواجب الدولة الحقيقي اليوم، تحويل التنوع من مَصدر تهديد إلى مصدر قوة للعراق؛ إذْ ليس من المعقول أن تُبدَّد هذه الثروة العظيمة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive