الرجوع

الدين والاستغلال السياسي

الثلاثاء

م ٢٠١٨/٠٣/٢٧ |

هـ ١٤٣٩/٠٧/١١

يُمثِّل استغلالُ الدين من قِبل أرباب السلطة السياسية والاقتصادية، حقيقة واقعيّة لا تقتصر على مجتمع أو دين بعينه. فالحروب الصليبية، والاستعمار الغربي، والحركة الصهيونية، والحركات الدينية المتطرفة، جميعها استَعملت الدين كوسيلة لتحقيق مآربها، وأساءت إلى صورة الدين بشكل أو بآخر.

لم يقتصر استغلال الدين وسوء توظيفه على أَتباع الأديان الإبراهيمية؛ فقد قام الآريُّون بعد دخولهم الهند، بتكوين نظام طبقي يحقق مصالحهم ويمتزج بالعقيدة الدينية الهندوسيّة، وقد أدَّى هذا النظام إلى تقسيم المجتمع إلى أربع طبقات مغلقة، تسوِّغ التمييز بين الهنود.

عندما نتأمل تاريخ العلاقة بين الدين والسياسة، تَحضر أمامنا المقولة القديمة "الناس على دين ملوكهم"، وتدل هذه المقولة على أن الدين كان دومًا عُرضة للتأثّر بالقوى المهيمنة في تاريخنا الإنساني.

يَذكر القرآن أن "فرعون" استخدم الخطاب الديني في سبيل تجييش العامة على رسالة موسى عليه السلام ومشروعه التوحيدي: {وقالَ فِرعَونُ ذرُوني أَقتُل مُوسى وليَدعُ ربَّهُ إنِّي أخافُ أن يُبدِّل دينَكُم أو أن يُظهرَ فِي الأَرضِ الفسادَ} [غافر: 26]. كذلك يذكر القرآن أن "فرعون" كان وراء السَّحَرة، وأنه أجبرهم على ممارسة سحرهم الموهوم سعيًا للدفاع عن ألوهيته المزيَّفة: {إنَّا آمنَّا بربِّنا ليَغفرَ لنَا خطايَانَا ومَا أكرَهتنَا عَليهِ مِن السِّحرِ} [طه: 73].

هناك علاقة وثيقة بين طبيعة السلطة السياسية، ومضمون الخطاب الديني المراد تسويقه. فإنْ كانت السلطة تقوم على المشورة ومراعاة مصالح المجتمع، فإنها تدفع نحو إنتاج خطاب ديني يحترم التعددية والاختلاف. أمَّا إن كانت السلطة فردية مستبدَّة، فإنها ستحرص على إنتاج خطاب ديني حرفي وجامد؛ وذلك حتى لا يُنقل منطق التعددية والاختلاف، من دائرة الفكر الديني إلى دائرة الحكم والسلطان. فالتفرد بالسلطة، والفهم الحرفي للدين، كِلاهما يَصدر من مِشْكاة واحدة.

يؤكد تعدُّد أشكال التدين بين أتباع الدين الواحد، تأثيرَ العوامل الاجتماعية والثقافية في تشكيل الأنماط الدينية. ولو دققنا النظر في أسباب نشأة الفرق الإسلامية مثلًا، لوجدناها تتصل بمشكلة الإمامة، والتغيرات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المجتمع الإسلامي، أكثر ممّا نجدها تتصل بالنص الديني نفسه.

يمكن القول بأن الأنماط الدينية التي تتَّسم بالتقليد وإثارة العواطف، تسمح وتُسهِّل عملِيَّتَي التوظيف والاستغلال، أكثر من تلك الأنماط التي تركز على العقل والاجتهاد. فعندما يتحول الدين إلى منظومة أفكار مستقرَّة ومُلزمة وغير قابلة للتطور، فإنه يمثِّل الصيغة المُثلى للنُّظم الدكتاتورية الطامحة إلى إدامة استحواذها على الشأن العام. فالخضوع والتسليم للمقررات الدينية العَقَدِيَّة، يجعل الفرد أقلَّ قدرة على التفكير والحوار، والتخويف من الحرية باعتبارها خَصمًا للعقيدة. وأيضًا يُفضي الإفراط في الترهيب والتخويف من العقاب والجحيم، إلى تكبيل الإرادة، وتغييب العقل عن التفكير في الواقع.

يَفتح الفكر الديني الحرفي المجال أمام التطرف والعنف، ومن هنا كانت مقولة "إنِ الحُكمُ إلَّا لله" ذريعةً للصراع بين المسلمين، ومن خلالها سوّغ الخوارج قتل الإمام عليٍّ. ثم جاءت معركة صِفِّين ورُفِعَت المصاحف في سبيل السلطة، "فلمَّا استَحرَّ القتلُ بأهل الشام قال عَمرٌو لِمعاوية: أرسِل إلى عليٍّ المصحف؛ فادعُهُ إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك" (رواه أحمد). ورُغم إدراك عليّ لهذا التوظيف بقوله: "وما رفعوها إلَّا خديعةً ودَهاءً ومَكِيدة" (ابن كثير)، إلَّا أن انطلاء الخدعة على جزء من جُنده لم يترك له مجالًا للرفض، ونتج من ذلك أولُ انتصار للعقل السياسي على العقل الديني في الإسلام.

لقد أثَّرَت الثقافة العربية قبل الإسلام في صياغة مساحة لا يستهان بها، من العصبية الدينية بعد الإسلام. وإن كانت الغاية التي تجري نحوها العصبية هي المُلك، كما يقول ابن خلدون، فإن ذلك يعني أن الخلط بين الدين والسياسة، يوشك أن يكون سجيَّة لدى الإنسان العربي. ولذلك، خصَّص ابن خلدون في مقدمته فصلًا في "أن العرب لا يَحصل لهم المُلك إلا بصِبغة دينية؛ من نبوَّة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة". ولعل هذه الكلمات الأخيرة لابن خلدون، تمثِّل مقدمة لمراجعة العلاقة بين السياسة والدين في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، والبحث في مدى قدرة العرب على صياغة نُظم سياسية، تحترم خصوصية الدين بعيدًا عن الاستغلال.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive