الرجوع

القتل خَلْف نار القُربان

الثلاثاء

م ٢٠١٨/٠١/٢٣ |

هـ ١٤٣٩/٠٥/٠٧

 

أوَّل جريمة قَتْل وقعت بين البشر كانت بين ابنَيْ آدم، عندما قتل "قايين" أخاه "هابيل"، وكان الدَّافع إلى الجريمة هو الشُّعور بالغَيظ والغَيْرة بعد أن قُبل قربان أحدهما، ولم يُقْبل من الآخر، كما قال القرآن: {واتلُ عليهِمْ نَبَأَ ابنَي آدمَ بِالحَقِّ إِذْ قرَّبَا قُربانًا فَتقبِّل مِنْ أحَدِهما وَلَم يتقبَّلْ منَ الآخَرِ قالَ لأقتُلَنَّكَ} [المائدة: 27]. أما الكتاب المقدَّس، فيقول: "فنظرَ الرّبُّ إِلى هَابيلَ وقُربَانِهِ، ولكِن إِلى قايينَ وَقُربانه لَم يَنظُر. فَاغتَاظَ قَايينُ جدًّا وسَقَطَ وَجههُ" (التَّكوين 4: 5).

ومع أنَّ المشكلة بدأت بعد تقديم القربان، إلا أن السَّبب الحقيقي وراء جريمة القتل، كان تلك النَّفس المريضة التي "طوَّعَت" للأخ أن يقتل أخاه، وهذا الخلط بين القُربان "المقدَّس" والنَّفس "المريضة"، ما يزال يُمثِّل الوصفة المُثْلَى لتسويغ الصِّراعات الدمويَّة بين بني الإنسان.

إن العبرة الأساسيَّة الأولى في هذه القصَّة تتمثَّل بأنَّ الجريمة وقعت بين الأَخوَيْن، وأن الضحيَّة هي الأخ البريء، وهذا المعنى يوجِّه النُّفوس السويَّة إلى أن تستشعر أن كل جريمة قَتل بين النَّاس، هي امتداد في قبحها وشناعتها لتلك الجريمة الأولى بين الأَخوَين في أوَّل أسرة بشريَّة.

والعبرة الثَّانية تتجلَّى في موقف "الأخ البريء" الذي رفض منطق مقابلة العنف بمثله، وذلك عندما قال لأخيه الذي توعَّدَه بالقتل: {لئِن بَسَطتَ إليَّ يدكَ لِتَقتُلنِي مَا أنا بِبَاسطٍ يديَ إِلَيكَ لِأقتُلَكَ إنِّي أخَافُ الله رَبَّ العَالمِينَ} [المائدة: 28]. وهذا يؤكِّد أن الردَّ على جريمة القتل بإعادة إنتاج جريمة أخرى مماثلة، سيجعل منطق العنف والقتل يَفرِض منطق العلاقة بين الناس. ولعلَّ قول الأخ البريء: "إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ"، يؤكِّد أنَّ الإيمان الحقيقيَّ بالله، يمنع الإنسان من الانسياق وراء رغبة القتل، خلافًا لانْسِياق "الأخ المجرم" وراء قربانه الضَّائع ونيران غيظه السَّوداء.

يؤسِّس القرآن على هذه القصَّة تشريعًا عامًّا، ابتدأ بِبَني إسرائيل وامتدَّ إلى شرائع جميع الأنبياء، فيقول: {مِن أجلِ ذَٰلِكَ كتَبنَا عَلىٰ بني إِسرَائِيلَ أنَّهُ مَن قتلَ نَفسًا بِغَيرِ نَفسٍ أو فسادٍ فِي الأرضِ فَكأَنَّمَا قتلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَن أحيَاهَا فَكأَنَّمَا أحيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

لم يَذكر القرآن أن أحدًا من الأنبياء قد أقْدَم على قتل أحد من النَّاس، وإنَّما يَذكر أن كثيرًا من الأنبياء قد قُتلوا ظلمًا وعدوانًا، ثم إنه يشدِّد على الوعيد والتَّخويف من الإقدام على جريمة القتل بطريقة تفُوق كلَّ جريمة أخرى، كما في قوله: {ومَن يَقتُل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فيها وَغَضِب الله عليهِ وَلعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عذابًا عظيمًا} [النِّساء: 93]. ومع أن كثيرًا من المسلمين قد يفهمون أن الوعيد هنا مخصوص بقتل "المؤمن" وليس بقتل "الإنسان"، فالمعنى أن المؤمن معصوم الدَّم لكونه إنسانًا، وهذه حقيقة ظاهرة يعرفها النَّاس جميعًا؛ وأما أن تكون عصمة الدِّماء بين البشر مخصوصة بإيمانهم وتصوُّراتهم العَقَدِيَّة، فهذا هو عين التَّمييز والعنصريَّة، ثم إن التَّوثُّق من حقيقة الإيمان، هو أمر لا يَعلمه سوى الله وحده.

القتل جريمة مَهْما كانت أسماء المجرمين وعناوينهم الدينيَّة، وأيضًا الضَّحايا هم ضحايا مهما كانت أسماؤهم أو معتقداتهم. وممَّا يعمِّق هذا المعنى الإنسانيَّ، ما نجده في قصَّة موسى عندما قَتل رجلًا مصريًّا على غير دينه خطأً، وكيف ندم وطلب العفو والمغفرة من الله: {قالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمتُ نَفسِي فَاغفِر لِي فَغفرَ لهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القَصَص: 16]. فموسى عليه السَّلام اتَّهم نفسه بالظُّلم عندما قتل مصريًّا غير مؤمن برسالته على وجه الخطأ؛ ما يفيدنا أنَّ قتل أيِّ نفس آدميَّة مَهْما كان معتقدها، هو ظلم وعدوان لا علاقة له بشرائع الأنبياء ومعتقداتهم.

اليوم، ورغم الجرائم الكبرى التي قامت بها الصِّهيونيَّة، ومحاولتها تسويغ تلك الجرائم باسم الدِّيانة اليهوديَّة، إلا أن الأسفار الدِّينيَّة اليهوديَّة بقيت شاهدة على حرمة الدَّم البريء، حسب ما ورد في بعضها: "مَلعُونٌ مَن يَأخذُ رَشوَةً لِكَي يَقتُلَ نَفسَ دَمٍ برِيءٍ" (تثنية 27: 25)، "وَلَا تَقتُلِ البَرِيءَ وَالبَارَّ، لِأَنِّي لَا أُبرِّرُ المُذنِبَ" (خروج 23: 7).

عندما ينظر الباحث في تاريخنا الإنسانيِّ، يلحظ أن أكثر مَن قُتل مِن المسيحيِّين قُتلوا على أيدي المسيحيِّين، والحال ذاته بين المسلمين. فالعدوُّ الأوَّل للإنسان هو نفسه المريضة التي تُطوِّع له الإساءة لأقرب النَّاس إليه، وليس تلك المبرِّراتِ الخادعةَ، التي تختبئ خلف الطُّقوس والقرابين.

 

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive