الرجوع

الكراهية في “فينسبري بارك”

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٦/٢١ |

هـ ١٤٣٨/٠٩/٢٧

لأن العالَم لم يعد عالَمًا بالمعنى المعروف، والكلمات لم تعد تحتمل المعاني المتعارف عليها، فإن تنهيدة الراحة، وأقاصيص السماحة، وتغريدات "الإرهاب لا دين له"، لم تؤثر فيّ كثيرًا. التفاصيل الآخذة في التكشف عن حادث الدهس الذي جرى في منطقة "فينسبري بارك" (شمال لندن) قبل أيام، تبدو كابوسًا آخذًا في الحدوث.

كابوس حلقة العنف المولِّد عنفًا، والكراهية المفجرة كراهية، والإرهاب الذي لا يؤدي إلا إلى إرهاب، يتحقق. دارين أوسبورن مواطن "بريطاني أبيض مسيحي" من كارديف (ويلز)، يُشتبه في قيامه بدهس مسلمين انتهوا لتوّهم من صلاة التراويح في مسجد "فينسبري بارك" الشهير. ليس عضوًا في جماعة أو حزب يميني متطرف، لكنه متابع لكلٍّ من بول غولدينغ وجايدا فرانزن، زعيمَي حزب "بريطانيا أولاً" اليميني المتطرف. جيرانه يحكون عن عبارات تفوَّه بها تحمل كراهية للمسلمين.

ولأن "جرائم الكراهية" غير مسموع بها في أعرافنا وقوانيننا في منطقتنا العربية، فهي تلك التي تستهدف شخصًا بسبب الانتماء إلى عرق، أو توجُّه جنسي، أو دين، أو إعاقة.. إلخ. والسبب في أنها غير معروفة لدينا، يعود إلى أنها غير معترف بها عربيًّا. فلدينا قوانين ازدراء أديان، لكنها في الأغلب والأرجح تعني ازدراء الدين الإسلامي. ولدينا قوانين تعاقب على اقتراف العنف، لكن لو كان موجهًا إلى الزوجة مثلاً فهو شأن عائلي خاص، وهلم جرا.

وقد جرت رياح رفض الآخر ومقته وتكفيره وقتله، بما لا تشتهي السفن في "فينسبري بارك". هذه المنطقة معروفة بتعدديتها الإثنية والثقافية والاجتماعية، والتي يتشارك أغلب سكانها في انتمائهم العقائدي إلى الإسلام. فمِن أتراك وقبارصة أتراك، إلى مغاربة وجزائريين، إلى صوماليين وعراقيين ومصريين وغيرهم. وهي معروفة أيضًا بما يسميه البريطانيون بـ"قصة تحوُّل معقل تطرُّف وكراهية، إلى منبع وسطية وتسامح"، وفي أقوال أخرى "نموذج نجاح لإنهاء الأصولية الكارهة للآخر".

لكن ما لا يعرفه البريطانيون (أو لا يودُّون أن يعرفوه، أو يعرفونه لكن يتجاهلونه)، هو أن الأصولية والتطرف والتشدد لا تنتهي بـ"جرَّة قلم"، أو تتبدد بتغيير شخوص، أو تتبخر بتبديل وجه عبوس بآخر مبتسم.

أقمتُ في لندن سنوات طويلة، بعضها في منطقة متاخمة لـ"فينسبري بارك". وبقدر روعة المنطقة وتعدديتها الثقافية المنعكسة محلات بقالة قبرصية، وشاورما تركية، ومطاعم كسكس مغربية، ومقاهي ذات نارجيلة شرق أوسطية، وملابس لا تُخطئها العين عربية، إلا أن كثيرين كانوا يتفادون الوجود في محيط المسجد في أواخر التسعينيات، ومطلع الألفية الثالثة. فقد ساهم إمامه أبو حمزة المصري في جذب مئات وربما آلاف الشباب البريطانيين من أصول عربية وغيرها، إلى التفكير الجهادي التكفيري، المعتنق للعنف طريقًا لرفع راية الدين. فهو "المجاهد" السابق في أفغانستان، والتلميذ المتيَّم بابن لادن، والإمام المفوه في مسجد "فينسبري بارك" لسنوات طويلة.

وحتى بعدما استيقظت السلطات البريطانية من غفوتها، وأيقنت أن الصادر عن الإمام لا يندرج تحت بند التعددية الدينية والحرية العقائدية، وجرَت تنحيته عن إمامة المسجد، كان يخطب في الآلاف في الشارع المقابل للمسجد، في حماية أو رقابة الشرطة البريطانية.

هذه الآلاف لم يذعن جميعها لعملية تطوير المسجد، وتحويله إلى شعاع للوسطية ومركز للتعايش. وربما بدا هذا واضحًا في تنامي أعداد البريطانيين المنضمين إلى داعش. فالفكر لا ينتهي بجرة قلم، والكراهية لا يصدر قرار بإيقافها.

إيقاف حوادث العنف المضاد، أو وأد عمليات إرهاب الآخر، لم يعد واردًا. فحلقة العنف تدور، وما أفسدته عقود بتربية وحش التطرف والكراهية في الحديقة الخلفية، لن تصلحه قوات تحالف تقصف معاقل داعش، أو تغريدة لابنة الرئيس ترامب تَنعَى ضحايا الدهس، أو إطلاق تنهيدة تنمُّ على راحة؛ لأن الإرهاب لم يعد لصيقًا بالمسلمين وحدهم.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive