الرجوع

تلك التي “أرضها سْخونة”

الإثنين

م ٢٠١٧/١١/١٣ |

هـ ١٤٣٩/٠٢/٢٤

"أرضها سْخونة"، عبارة يرددها التونسيون لوصف تونس، في إشارة إلى المعتقد الشعبي أنها في حفظ الله وتحت بركات الأولياء الصالحين الممتدة مقاماتهم في طول البلاد وعرضها. تلك العبارة تليدة، لارتباطها بتاريخ التصوف العريق في تونس، حيث يعود إلى القرن السادس للهجرة (12 ميلادي)، ولم ينقطع إلى يومنا هذا. مُدن كثيرة تحمل أسماء أولياء صالحين متصوفة، مثل: بن عروس نسبةً إلى سيدي أحمد بن عروس، ومنوبة نسبةً إلى الولية الصالحة السيدة عائشة المنوبية. ويحافظ التونسيون إلى اليوم على عادة إطلاق أسماء أعلام التصوف على أولادهم: محرز، عبد القادر، عبد السلام، بلحسن.. إلخ؛ ما يقيم الدليل على أن التراث الصوفي ليس درسًا يُلقى أمام أكاديميين، بل هو قائم حي في المجتمع. فالطرق الصوفية ليست حكرًا على مدينة أو منطقة تونسية بعينها، بل تمتد على كامل تراب البلاد، فتجد لكل ولاية مقامات أولياء، وزوايا، ولها مواسم زيارات تتعاقب على مدار العام: هنا طريقك قادرية، وهناك طريقة شاذلية، وفي الجانب الآخر طريقة عيساوية، وفي الجنوب طريقة سيدي عبد السلام الأسمر. انتشر التصوف في تونس بوصفه شكلًا من أشكال الإحسان للخلق ومحبةً خالصة لله، بل زخمًا روحيًّا، فيه يتشكل الإيمان بكل عفويته وتلقائيته، متخلصًا من تعقيدات الفقهاء، مرتفعًا عن طين الأرض نحو السماء. ففي زوايا الأولياء الصالحين يتساوى الجميع في التضرُّع إلى الله بالدعاء والإنشاد، وفي التبرع للمحتاجين والطبخ لهم كل يوم. في تلك التكايا المفتوحة يتجسد العطاء للمسكين وعابر السبيل ومن تقطعت بهم السبل، فمن أحب الله، أحسن إلى خلقه. التصوف ليس كرنفالًا كما يصوره بعضهم، بل طريقة تتفوق فيها محبة الله على الرهبة منه، وقد يكون هو الإسلام الشعبي في تونس، ببساطة المؤمن القريب إلى الله، والمتسامح مع خلقه. هذه الصورة السمحة عن الإسلام، ومع عراقتها في بلد متعدد الحضارات كتونس، إلا أنها تعرضت مباشرة بعد الثورة لاختبارات مؤلمة. عشرات مقامات الصالحين (150 مقامًا) في شتى مناطق البلاد، كانت عُرضة لعمليات حرق وتخريب في السنوات الأولى بعد الثورة 2011 و2012 و2013. ومع خروج تيارٍ سلفي تكفيري إلى النور بعد سقوط نظام ابن علي، تضاعفت عمليات الاعتداء على مقامات التصوف، وكأنها محاولات لاجتثاث الماضي الصوفي في تونس باعتباره "كفرًا وشِركًا وتحريفًا للإسلام". لكن التصوف لم ينقطع، وتلك النيران التي امتدت لتلتهم مقام السيدة المنوبية المصنف تراثًا عالميًّا من قبل اليونسكو، تلك السيدة المتعلمة التي عاشت في القرن الثالث عشر إبَّان الدولة الحفصية، وهي هاشمية النسب، كانت نورًا زاد من التشبث بثقافة التصوف من قبل التونسيين. لم تنل محاولات التكفير وتهم الشرك بالله من مواسم زيارة المقامات في الأزقة الضيقة للمدينة العتيقة، أو في مدن تونسية أخرى، بل إن الاهتمام بالتصوف زاد لأنه أصبح في نظر المؤمنين بسماحته طريقة مثلى للتصدي للتطرف والكراهية. ولمَّا كان الإنشاد الصوفي ركيزة من ركائز الصوفية في تونس، أُحْيِيَ مهرجان خاص به في نفطة جنوب تونس والتي تسمى الكوفة الصغرى، لكثرة مقامات الأولياء الصالحين فيها. وفي ثاني دوراته التي تقام حاليًّا، استطاع المهرجان استقطاب تونسيين وأجانب ممن يبحثون عن التجلي الروحي والعشق الإلهي غير المحدودَيْن بالزمان أو المكان، وكأنه انتصار ولو صغير للمحبة، في زمن التفجيرات والاغتيالات وأصوات طبول الحرب التي تقرع هنا وهناك. محاولات تشويه الصوفيين وتصويرهم من قبل المتشددين على أنهم "زنادقة" و"مشركون"، هي محاولات يائسة في المغرب العربي بالذات، فقد حاول الاحتلال الفرنسي اجتثاث التصوف من بيئته المقاومة ولم يفلح. صوَّرهم على أنهم دجالون وبائعو أوهام، بل حتى خونة، لكن لم تَنْطلِ حيلته على سكان المغرب العربي. من طرابلس إلى نفطة، فغرداية، وفاس، مقامات الأولياء الصالحين شواهد حية على هذا التراث الثري بالمحبة لله وللخلق، وبالوفاء للأوطان. الترياق واحد، وثمة من يجد طريقه إلى الله لا داخل المِحْراب، بل بالسمو بمحبة الله وخلقه، والترفع عن العداوات والأحقاد، مثل من يغتسل بالنور كل يوم، ولا يكلّ من تلك الطهارة. * هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive