الرجوع

شربة ماء “مسيحية مُسْلمة”

الثلاثاء

م ٢٠١٨/١١/٠٦ |

هـ ١٤٤٠/٠٢/٢٧

"دَلْوُ الماء هذا مُسْلم، لا يَحقُّ للمسيحيَّة أن تشرب منه. أنتِ تدنِّسينَه". عبارة تسبَّبَت بعراك، ثم بالحُكم بالإعدام على سيدة بتهمة سبِّ النبي. حدَثَ ذلك في باكستان عام 2009، حين جرت محاكمة المُواطِنة المسيحية "آسيا نورين" بتهمة "التجديف" (شتم المقدسات الدينية)؛ وذلك بعد عراك مع زميلاتها في حقل الفاكهة الذي تعمل فيه، حين شربت من دَلْو ماء تَستخدمه العاملات المسلمات. فشَبَّ خلاف "لأنها نجسة" حسب تعبيرهنّ. "دنَّست" طهارة الدلو المخصَّص لهن، بإقدامها على الشرب منه. ثم ادَّعَين أنها شتمت النبي محمدًا، وطالَبْنَها بأن تعتنق الإسلام "للعفو عنها". لكنها رفضت، فلاحقنها إلى بيتها وضربنها، فشتمت النبي حسب قول المحقِّقين، ثم حُكم عليها بالإعدام، قبل أن يُخلَّى سبيلُها الأسبوع الماضي، بعد تبرئتها من قِبَل قاضٍ جديد؛ وهو ما أدخَل البلاد في موجة مظاهرات لم تهدأ حتى الساعة.

لن نغوص في حيثيّات حكم الإعدام ونقضه، ولا في مَسيرات الغاضبين ومآلاتها. لكن، دعونا نتأمل ما معنى "تدنيس ماء"، لأن "مسيحية شربت منه". فاستدعاء وصف "الدنس" هنا، يعني أن دلو الماء كان "مقدَّسًا". فمتى يكون الماء مقدَّسًا؟ لم تُخْبرنا الكتب السماوية عن ماء مقدَّس، لكننا هنا نفترض أن كون الماء مخصَّصًا للمسلمات، فهو “مقدَّس”. هكذا، منَحت النسوة أنفسهن قداسة إلهية، ووضعن أنفسهن في مرتبة أعلى من المسيحية، فمنَحْن أنفسهن صفة خارقة، هي "القداسة". وفي المقابل، كان يكفي أن تشرب تلك المسيحية جرعة ماء من ذلك الدلو، حتى تُوصَم بـ"الدنس".

قصة “الدلو المقدَّس"، ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. فالمخيال الشعبي يزخر بمشاهد ازدراء الديانات الأخرى، حيث يدَّعِي صاحب هذا الدِّين أنه "طاهر"، وأنَّ معتَنِق الدِّين الآخر "نجس"؛ للحيلولة دون اختلاط الأول بالثاني، ولتأكيد تفوُّق الأول على الثاني. الازدراء يتأتَّى من رغبة كامنة في التفوق على الآخر، برغبة جامحة في جعل الدنيوي مقدَّسًا، لأن المقدَّس محلُّ إجلال واحترام. ولهذا، جرى وضع ذلك الدلو في البستان في باكستان، ليستحضر للمجموعة صورة القداسة. ولأن الأشياء تُعرف بأضدادها، كان على تلك المجموعة أن تراقب تلك المسيحية، حتى “لا تدنِّس” قداسة الدلو، أي قداستهن. وللسائل أن يسأل: لماذا قَبِلن أن تَعمل تلك المسيحية بينهن؟ أَلِمُمارسة التفوق عليها، حين تأتي الفرصة وتقترب من الدلو وهي ظمأى؟

إننا نعيش خُرافة في بُعدها الزمني الآنيِّ، خرافة "حقيقية" يا للأسف. لكن، هناك إجماع على أنها جديرة بأن تحيا، وبأن يشارك فيها القاصي والداني. لهذا، خرجت جموع للمطالبة بإعدام آسيا. فإلغاء حكم الإعدام أعدم خرافة "الدلو المقدَّس، وهدَّد كِيان المجموعة حين سلَبَها خرافتها.

في الخُرافة، وهي من نسج خيال الإنسان، يَحضر المقدَّس بقوة. فيُطلَق على الأماكن، وعلى الطقوس، وعلى العوامل الطبيعية. وعُمْر المقدَّس طويل، ما دامت الخرافة لم تَمُت. ولو عُدنا إلى الدلو المقدس في القصة الباكستانية، التي ستتحوَّل بِدَورها بعد قليل من الزمن إلى خرافة، لوجَدْنا الكثير من "التجاوزات" الدينية، التي تتعارض مع جوهر الإسلام. فالإسلام نَصَّ على حقِّ الاختلاف، وأقرَّ بالحرية الدينية: {لَكُم دينكُم وليَ دينِ}. فكيف سَمَحت النسوة لأنفسهن بالضغط على تلك المسيحية، لتعتنق الإسلام مقابل "العفو عنها"؟ نصَّبْن أنفسهن قاضيًا وفقيهًا، فاستَقْوَين بمفهوم القبَلِيّة والعشائرية، لأنهن مجموعة كبيرة من دِين واحد، أمام وحيدة من دين يمثِّل أقلِّيّة في القرية وفي جموع باكستان.

 بعدها، نسَفْنَ فكرة الإحسان التي يقوم عليها الإسلام. والإحسان ليس صَدَقة، بل كلَّ قول فيه حُلم، وكلّ فِعل فيه رحمة. ألم تكن تلك المسيحية في حاجة إلى رشفة ماء وهي تعمل بكَدٍّ؟ كيف تُمنع منها؟ يقول الله تعالى: {وأَحسنُوا إِنَّ اللَّه يحِبُّ المُحْسنينَ}. بل إن الله أمرنا بالإحسان في قوله: {إِنَّ اللَّه يأمرُ بالعدلِ والإِحسَان}.

عكْسُ الإحسان هو الإساءة. هذا بالضبط ما فعلته أولئك النسوة، فأسَأْنَ لسيدة شربت من دلو، قبل أن تتطور القصة إلى ملاحقتها حتى بيتها. وهذه أيضًا إساءة نهانا عنها الله ورسوله، رسولُه الذي تقول النسوة إن زميلتهن شتمَتْه. ولو حتَمْنا بأنها شتمَته فعلًا –عِلمًا أن القاضي في حكم النقض قال إنه لم يَحدث-، ألم تَقُم النسوة بكلِّ شيء من إيذاء وغطرسة وظلم وحبس ماء عن ظمآن، وهنَّ يَدَّعِين أنهن يَذُدْنَ عن الإسلام؟ وفي الحقيقة، أنهن كُنَّ أسوأ لوحة حيَّة للدِّين الإسلامي!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive