الرجوع

عفوًا: كورونا ليس من جند الله

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٤/٠٧ |

هـ ١٤٤١/٠٨/١٤

تسابقَت بعض المَنابر الدينية خلال الأسابيع المنصرِمة، إلى توظيف وباء كوفيد–19 "كورونا" لأغراض عقائدية، كُلٌّ وَفْق اتِّجاهه "الفكري"، أو مَذهبه "العَقَدِيّ"، أو رؤيته "السياسية". فمِنهم مَن قال: إنَّ هذا الوباء عقابٌ من الله لأتباع هذا المذهب أو ذاك. ومنهم مَن ذهب إلى أنه جزاء إلهيّ لبلد معيَّن، أو أنه امتحان للناس. وبعضُ المنابر جعلَت الوباء تحذيرًا للبشر جميعًا، لِكي يعُودوا إلى طريق الحقِّ والصلاح. إنَّ جميع هذه الأقوال تَشترك في رؤية واحدة، تتمثَّل بِجَعْل الفيروس واحِدًا مِن جُنْد الله، أَرسَله لغرضٍ محدَّد. لذا، لا بد من وقفة، عند صورة الله في عقول هؤلاء الناس وقلوبهم.

نَعْلم اليوم أنَّ كبار السِّنِّ هُمُ الأكثَرُونَ عُرضةً لمضاعفات الإصابة بالفيروس، إضافةً إلى المَرْضى، والذين يعانون ضُعفَ جهاز المناعة. أيضًا نَعْلم أنَّ هذا المرض يصيب الجهاز التنفُّسي، ويؤدِّي إلى حالةٍ أشْبَهَ بالاختناق؛ ما يجعله سببًا لموت مؤلم جدًّا. فهل من المنطق أن يكُون الله -وهو الذي وصف نفسه سبحانه في جميع كتب الأديان الإبراهيمية بأنه إله الرحمة والمحبة-، قد اختار أضعَفَ الناس ليعذِّبهم بهذه الطريقة، من أجل أن يَعتبر الآخرون؟ ولماذا لم يُرسل عقابًا أو تحذيرًا يصيب الظالمين، أو أولئك الذين عَثَوْا في الأرض فسادًا، بدل معاقبة الضعفاء؟ فلْننظر إلى أكثر الفئات الاجتماعية تَضرُّرًا من حظْر التجوُّل، ومن الإجراءات الصحية! إنهم ليسوا من الأثرياء قطعًا، بل من الفقراء الذين يَكسبون قُوت يومهم بِعَرَقِ جبينهم يومًا بيوم! فهل أراد الله فعلًا زيادة معاناة كلِّ هؤلاء، لإيصال رسالته إلى الأغنياء؟!

أستَغرِب من أولئك الذين تَأَلَّوْا على الله (حَلفُوا بلا عِلْم على أنّه يفعل كذا وكذا)، وصوّروه للناس إلهًا ظالمًا، يصُبّ جامَ (كأس) غضبِه على الأبرياء والضعفاء، ويَترك الظَّلَمة والمتجبِّرين. لا، ليس هذا هو الله، كما أفصَح عن ذاته المقدَّسة في الكتب السماوية. وحَذارِ من أن نَعكس صورة الحاكم المستبِدّ، والتي أضحت مألوفة عند بعضنا، في تَصوُّرنا عن الله. إذن، كيف نفسِّر وجود الأمراض والأوبئة والحروب والمصائب في هذه الدنيا؟ علينا -قبْل كلِّ شيء- أن نَعي مكانة الإنسان عند الله، بصِفَته مخلوقًا فاعلًا، حمَّلَه الله المسؤولية، وجعله خليفةً في الأرض. ولذلك، رزقه حرِّيَّة تحديد مصيره، ومِن ثَمَّ توجيه واقعه ومستقبله، إمَّا في طريق الخير، أو في طريق الشر. إنه الإنسان الذي يؤثِّر في التاريخ، ولكنْ وَفْق سُنَن الله.

أمَّا الطبيعة، فإنها تَسِير وَفْق قوانين معيَّنة، قد تؤدي أحيانًا إلى كوارث طبيعية. ولكن، ليس هو الله الذي أراد هذه الكوارث. لذلك، لا بد أن نتجاوز اليوم ذلك الخلاف القديم بين المدرسة الأشعرية والمدرسة المعتَزِلِيَّة، حول السؤال: "مَن خَلَق الأفعال -ويشمل ذلك الأمراض-؟ أهُوَ الله، أَمِ الإنسان؟". أجاب السادة الأشاعرة بأنه الله وحده الذي يَخلق كلَّ شيء، ومِن ذلك أفعال الإنسان والأمراض. أمَّا المعتَزِلَة، فانتصَروا لحرية الإنسان بقولهم: إنه هو خالق أفعاله. لكننا نستطيع التوفيق بين المَذهبَين بالقول: إنَّ الله أراد للإنسان أن يكُون حُرًّا مُريدًا، بإرادة منفصلة عن إرادة الله. ولذلك، جعله حرًّا. ولكن، حمّله مسؤولية هذه الحرية.

مَن أراد الخير، فعليه أن يسعى في تحقيق هذا الخير، وَفْق سُنَن الله في الكون. فعلاج الكورونا مثلًا يتطلَّب الأخذ بأسباب تطوير اللَّقَاح المطلوب، وتطوير الأدوية والأجهزة وأساليب العلاج اللازمة. إذًا، السؤال ليس عن مُراد الله من خلْق فيروس الكورونا، أَهُوَ عقابٌ أَمِ امتحان أَمْ تحذير؛ وإنّما ينبغي التساؤل عما قدَّمناه حتى اليوم، وعمَّا يمْكننا أن نقدِّمه غدًا في سبيل تطوير الأبحاث والإمكانات الطِّبِّيّة. فكيف يمْكننا تطوير نظام الرعاية الصحية، لِكي يشمل الجميع دون استثناء؟ وكيف يمكننا مساندة إخواننا وأخواتنا في الإنسانية مِن حَولنا، ومدّ يد العون لهم في مثل هذه الظروف الصعبة؟ وأين توجد عائلة محتاجة، ضاقت عليها الدنيا بسبب حظْر التجوُّل الحالي؟ وماذا يمْكنني أنْ أُقدِّم للتخفيف عن غيري؟

إنْ كان الفيروس امتحانًا، فهو ليس امتحان الله للبشر في إيمانهم ويقينِهم، بل امتحان سُنن التاريخ للبشر، إنْ كانوا قد استَوعبوها وتسلَّحوا بسلاحَين: سلاح العلم، وسلاح الإنسانية. أمَّا الذين سينتصرون على كورونا، فهُم الأطباء والمتخصِّصون/ات في صناعة الأدوية من جهة، وأحِبَّاء الإنسانية وخُدَّامها من جهة أخرى. فمَن كان في هذه الأيام طبيبًا(ة)، أو ممرِّضَة(ة)، أو قائمًا(ة) على أبحاث طبِّيّة لتطوير لَقاحٍ أو علاج، أو كان مِن أولئك الذين يمُدُّون يد المحبة والرحمة لغيرهم في هذه الظروف الصعبة - فهنيئًا لجميع هؤلاء الناس. إنهم الأجْدَرُون بوسام الإنسانية.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive