الرجوع

“كورونا” والأمن الإنساني… تكثيف التعاضدّ!

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٤/١٤ |

هـ ١٤٤١/٠٨/٢١

جائحة كورونا، التي اجتاحت مفاصل الحياة الإنسانية على الصُّعُد كافة، دقّت ناقوس خطر استمرار عدم التوازن، فيما بين المسار الاستهلاكي في سياقه "الإنتاجي–التّجاري–التسويقي"، وذاك المسار التعاضدي في سياقه "الابتكاري–التشاركي–الشَّعبي".

ليست المقاربة هنا أبدًا بباحَثةٍ عن التَّمَوضع في مربّعات نقاش الأيديولوجيّات الاقتصاديّة، بين تلك الرأسمالية–النيوليبرالية من ناحية، وتلك الاشتراكية–التأميميّة من ناحيةٍ أخرى؛ بل هذه المقاربة تستدعي بعض التفكّر في رحلةٍ كونيّة، أمعَنَت -في الخمسين عامًا الأخيرة- في بناء مَواقع نفوذٍ ماليّة واقتصاديّة وعسكريّة، استطاعت تصنيف الخارطة العالميّة بين فُسْطَاطَي (مُعَسْكَرَي) الأقوى والأضعف، والأغنى والأفقر. أيضًا سمحَت بقيام تكتُّلات، قِياسُ قوّتِها قائمٌ -في مدى قدرتها- على إدارة الموارد الطبيعيّة والبشريّة بالاستناد إلى مصالحها، التي حتمًا تَحمل في طيّاتها خيارات الخيار العامّ، لكنها تَحمل أكثر النَّفَس التَّنافُسيّ في السيطرة على هذه الموارد.

بين الإدارة والسيطرة خيطٌ رفيع أساسُه أخلاقيٌّ، إنْ أردْنا تفادي مأساة المشتركات. وقد فشلت منظومة الأقوى–الأضعف، والأغنى–الأفقر، في تحييد القَويِّ والغنيِّ عن جائحة كورونا. فتَساوَى العالم كلُّه في حالات الذُّعر والارتباك. ثم إنَّ نقْصَ المناعة الوقائية بسبب سرعة انتشار الجائحة، كان سببًا مؤسِّسًا، لكنَّ نقْصَ الاستعدادات والمُعَدَّات وتعقيدات مُركّب الفيروس، كانوا أسبابًا مؤسِّسَة أيضًا. إنَّ الحديث في حالات الذُّعر والارتباك ليس تفصيلًا، بل إدراكًا للمَعطوبيَّة الإنسانية التي نُواجهُها.

المرحلة الاستباقية لانتشار الجائحة، أظهرَت عدم تَوازُنٍ صِحِّيّ–طِبِّيّ. أمَّا المرحلة الوقائية، فتَجلّت في رُدود فعلٍ مُواجِهة، تأرجحَت بين التشدّد والترقّب. وأمَّا المرحلة التفاعلية، فتَميّزت بانطلاق مسار الانتظام الوقائي-العلاجي. فماذا عن المرحلة الانتقالية بتَمَظهُراتها السوسيو–سلوكية، والاقتصاد–أسواقيّة، والمَوارديّة–البيئيّة، والبحثيّة–العلميةّ، والأخلاقيّة–الإيمانيّة؟ أوَلَيْست هذه التَّمظهُرات في تَشعُّباتها، تستدعي انكبابًا على التفكير الهادئ في مَآلاتها؟

"في كلِّ محنة فرصة". أوَلَم يكن ذلك في صميم تفكير رجل دولة استثنائيٍّ، من طراز "ونستون تشرشل"، وهو الذي لم يتَوانَ أيضًا في التعبير بجرأة حين قال: "إنْ صمّمْت على المُضيّ إلى الجحيم، فاستَمِرّ قُدمًا"؟ إنَّ المُضيَّ إلى الجحيم في خلفيَّته اللاهوتية هنا خَلاصِيٌّ، كما مع يسوع المسيح. مِن هنا يتبدَّى -على كثيرٍ من الإلحاح- مُوجِب تفكيك تَشعُّبات تَمظهُرات ما بعد الأزمة التي ذكرناها، إنْ أرَدْنا معًا التزام تَوازنٍ كوزمي متماسِك. وهُنا بيت القصيد في موازاة مواكَبة الأزمة الكارثية، التي نعيش بوَجَعِها الإنساني، مِن مرْضَى يعانون، وأحبَّاء يرحلون بصمتٍ مُدَوٍّ.

في البُنْية السوسيو–سلوكيّة، لِمَا بعد مرحلة الأزمة الجائحة "كورونا"، هل نكون أمام انْعِطافة راديكالية من المسؤولية الجماعية عن حقوق الفرد، إلى تلك المسؤولية الفردية عن حقوق الجماعة؟ ثم كيف ستتلقّف الأنظمة السياسية هذه الانعطافة؟ أَلِتَكْريس ديكتاتوريات مقنَّعة بِاسْم حماية الجماعة؟ إنَّ هذه البُنْية تحديدًا، تَطرح على مفهوم المواطَنة تحدّيًا جوهريًّا، كما على آليَّات الحَوكمة الشاملة والقِطاعية. وفي بُنْية الاقتصاد–أسواقيّة أوَّلًا، يُقتضى تحديدُ أوْلويَّات الأمن الغذائي والصحي والطبي، ليس من باب تطوير التِّقْنيات الإنتاجية حصْرًا، بل من باب صَون نوعيَّة الحياة. أمَّا الرفاهيات، أفليس مُهمًّا فيها انتِهاج مَسالك تتواءَم وفلسفةَ العدالة الاجتماعية، أكثرَ من تَواؤُمِها والغوصَ في معانَداتٍ تَفوُّقيّة واستنزافات استهلاكية؟

في بُنْية الموارد–البيئية: هل تتكرّر ذهنيّات احترام حدود الطبيعة وتطوير مناهج حمايتها، أكثر منه توقيع بروتوكولات ومواثيق هي إستراتيجية الأهمية، أمْ أنّها تتطلّب ترجمةً عمَلانيّة؟ وفي البُنية البحثية–العلمية: ماذا عن الاستثمارات الهائلة المنفَّذة في الأسلحة بتشكّلاتها التقليدية، والذَّرِّيّة والنَّوويّة والجرثوميّة؟ أوَليس الأجدى تخفيضها، حتى وقْفُها واستبدالها، باعتمادات في أبحاث مكافحة الأوبئة والأمراض، بالمعنى الوقائي أكثر منه بالعلاجي؟ وفي البُنية الأخلاقية–الإيمانية: ماذا عن عودةٍ عقلانية إلى وعْيِ أنَّ الكَون والخليقة أمانة في أعناقنا وعقولنا، حيث الخير المشترك وحْدَه، كفيل بإطلاق العنان لتحصين معنى وُجودنا مع الآخر، في فِعل تَكافلٍ ومحبَّة؟

جائحة كورونا، فرضَت في الكون إعادة تحديد مقوّمات الأمن الإنساني من ناحية، مع إعادة تكثيف لقيمة التعاضد من ناحية أخرى. وقد نُواجِه ما بعد الأزمة انحرافاتٍ انعزالية وفوبياويّة من الآخر، لكنَّ جَمال التعدّدية وغِنَى الآخر سينتصران.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive