الرجوع

كِشْك التعددية المهدورة

الثلاثاء

م ٢٠١٧/٠٧/٢٥ |

هـ ١٤٣٨/١١/٠٢

تفجَّر أثير العنكبوت (الإنترنت) سخرية وتنكيتًا، وتجيَّشت قوى التهديد والوعيد استعدادًا للهجوم. فالسخرية هنا لا يدحرها سوى الاتهام بمعاداة الدين، والتنكيت لا يجهضه سوى التلويح بسلاح التكفير. وسواء كان الأمر يستحق الضحك، أم يستنفر الهجوم، فإن أكشاك الفتوى أمر جدُّ خطير.

خطورة القول بأن الدولة المدنية تحترم حرية العقيدة والرأي والتعبير، وتؤمن بأن الدين لله والوطن للجميع، ثم الإغراق في أفعال الدولة الدينية، تكمن في تهديد السلم العام وتكدير بديهيات المواطنة.

المواطنة التي طرقت باب "كشك الفتوى" في محطة الشهداء في مترو أنفاق القاهرة، وجدت وجوهًا متعجبة. "كشك الفتوى" هو نتاج اتفاق مبرم بين "شركة مترو الأنفاق المصرية"، ولجنة الفتوى التابعة لـ"مجمع البحوث الإسلامية" في الأزهر الشريف، اعتقد من أبدعه أنه وسيلة لتجديد الخطاب الديني. المواطنة أرادت أن تستكشف ما يجري في هذا الكشك العجيب، ولأنها لا ترتدي الحجاب، فقد أثارت خليطًا من الذعر والدهشة المخلوطين بالاستهجان، من قبل المشايخ القابعين في الداخل، والرُّكاب المارِّين في الخارج!

"أتُراها نصرانية (مسيحية)، اخترقت كشكنا؟"، "أتكون مسلمة تاركة دينها، سائرة على حل شعرها؟". ربما تكون هذه التكهنات وغيرها، ما جال في رؤوس شيوخ الإفتاء القابعين في كشك الفتوى المثير للجدل. لكن كشك الفتوى العجيب الغريب المريب الفريد، ليس إلا علامة جديدة من علامات ضرب الدولة المدنية في مقتل.

قتل المبادئ ووأد الإيديولوجيات لا يتطلبان إجراءات كثيرة. المسألة أبسط وأيسر. قُل ما شئت عن "الدولة المدنية الحديثة"، و"الوطن الذي يتسع للجميع"، واترك الحبل على الغارب لكل مَن مِن شأنه أن يشيد دولة دينية.

الدولة الدينية التي يُروَّج لها في منطقتنا العربية تدفعنا دفعًا نحو الهاوية. فضِّل طائفةً على أخرى في فرص العمل، وطبِّق ما تراه نابعًا من الشرع بمبادرات ذاتية وهمم شخصية، وألصق ما شئت من عبارات دينية على زجاج مركبتك الخلفي، وخصِّص أماكن صلاة في كل ركن من منشأتك لأتباع دين دون آخر، وانظر نظرة احتقار إلى من لا تلتزم الزي الذي تراه مطابقًا لكتابك المقدس، واضبط صوت الميكرفون على أعلى درجة لتصل صلاتك إلى داخل كل غرفة نوم وساحة جلوس، ولا تنسَ أن تختمها بالدعاء لأتباع ملتك، والدعاء على كل من يحيد عنها؛ ثم حدثني عن عظمة التعددية، وروعة المواطنة، وهَيْلَمان المساواة، وعبق الدولة المدنية الحديثة، كيفما وأينما وحينما شئت.

وإن شئت أن تتحقَّق أن ما ترسِّخه هو دولة دينية قديمة، فتخيَّل طلبًا تقدمت به الكنيسة المصرية الأرثوذكسية لإقامة "كشك اعتراف" أو "مناولة"، أو مطالبة الكنيسة الإنجيلية بـ"15 دقيقة" لبثِّ عظاتها ضمن الوقت المخصص لبث الخطب الدينية وتوضيح تعاليم الإسلام في الإذاعة الداخلية للمترو، أو تقدُّم الكنيسة الكاثوليكية بالتماسٍ لتعليق عدد من اللوحات الدينية على جدران المترو، أو مطالبة ممثلين عن الشيعة بوضع صندوق لجمع التبرعات لمصلحة فقرائهم!

وبدلاً من الاستغراق في التكهن بردود الفعل الرسمية والشعبية على مثل هذه المطالبات التخيلية، يمكن القول إنَّ أيًّا مما سبق، مكانه قائمة الغول والعنقاء والخِلّ الوفي.

الوفاء للدولة المدنية الحديثة لا يعني معاداة الدين (أي دين)، ولا ينص على إعلان الكفر عقيدة رسمية. الوفاء للدولة المدنية الحديثة يعني حماية كل المواطنين، بغضِّ النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية، ويعني ترسيخ مبدأ المواطنة حيث المواطن لا يُعرَف بدينه أو مهنته أو ماله أو إقليمه أو ملته أو طائفته، لكن يُعرَّف تعريفًا قانونيًّا اجتماعيًّا بأنه "مواطن".

وبحسب الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632 – 1704) فإن "كل الذين يؤلفون جماعة واحدة، ويعيشون في ظل قانون ثابت وقضاء عادل يلوذون بهما، وبوسعهما بتُّ الخصومات التي تنشأ بينهم ومعاقبة المجرم منهم، فإنما يعيشون معًا في مجتمع مدني".

المجتمعات وتعدديتها لا تقبل القسمة إلا على "واحد". فإمَّا يعتنق المجتمع التعددية ويترجم اعتناقه فعلاً لا قولاً، وإمَّا لا يؤمن إلا بدين الأغلبية، أو طائفة الحاكم، أو مذهب جماعة، وعلى الآخرين الانصياع. إمَّا أن تختار الشعوب المواطنة والتعددية، وإمَّا أن تميل صوب ترجيح كفة كشك هؤلاء وليس أولئك.

لم يصمد كشك الفتوى كثيرًا، وأعلن المسؤولون رحيله عقب عيد الأضحى المبارك. ويلوح أن قرار الرحيل جاء نزولاً عند ضغوط عاتية، من مؤيِّدي الدولة المدنية على أثير العنكبوت.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive