الرجوع

أكبر سجن في العالم

الجمعة

م ٢٠٢٣/١٢/٠٨ |

هـ ١٤٤٥/٠٥/٢٦

 "أكبر سجن في العالم" هكذا وُصف قطاع غزة بعد تصاعد الأحداث فيها منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر العام الجاري. جاء هذا الوصف قبل ذلك عند نشر صحيفة الجارديان في عام 2019 تقريرًا صحفيًّا بعنوان "حصار جيل غزة: شباب يعيشون في "أكبر سجن في العالم".

شخصيًّا، أُعاني فوبيا الأماكن المغلقة، وأشعر بضيق تنفس شديد عند قراءة هذا التعبير. لقد ظللتُ أبحث وراء سبب هذا الوصف، حتى وصلتُ إلى تقرير صحفي يصف بوضوح الوضع في قطاع غزة قبل تصاعد الأحداث. لم أكن أعلم أنه على بعد كيلومترات يعيش أكثر من مليوني إنسان كابوسًا حقيقيًّا، يتمثل بالحبس في مكان سماؤه مفتوحة، وأبوابه مغلقة. هذا الكابوس الذي أخاف أن أعيشه في غرفة منزلي، أو داخل مصعد المبنى، يعيشه هؤلاء البشر "الأطفال والنساء والرجال وكبار السن" طول حياتهم، ولا مفر منه.

مرَّ إلى الآن أكثر من عشرين عامًا على الحملة الإسرائيلية الموسعة، التي شُنَّت ضد مليوني فلسطيني في قطاع غزة. وبعد انسحابها من غزة عام 2005، حوَّل الكيان الصهيوني قطاع غزة، الذي تبلغ مساحته الإجمالية 365 كيلومترًا مربعًا إلى "أكبر سجن على الأرض"، يعيش فيه حوالي 2 مليوني فلسطيني؛ ما يجعل الكثافة السكانية عالية بشكل ملحوظ. قامت السلطات الصهيونية بعزل هذه المنطقة تمامًا، والسيطرة على المخارج والمداخل، حتى وصف التقرير منطقة قطاع غزة بالشريحة الرقيقة جدًّا على طول البحر المتوسط، والتي لن تجد لها أي علامات تؤكد اقترابك أو وصولك إليها. لن يستطيع أي شخص بسهولة المرور بالسيارة ودخول هذه المنطقة، وتقتصر الزيارة على الدبلوماسيين وعمال الإغاثة والصحفيين. إن الطريق البري الوحيد للأفراد إلى دخول قطاع غزة، هو عبارة عن ممر منعزل بين حقول خُضْرٍ، ينتهي بك إلى صالة مطار مهجورة، ومنطقة جوازات محدودة، ومنها تسير في ممر ذي جدار خرساني طوله 900 متر، حتى تصل إلى ما يمكن وصفه بـ "أكبر سجن في العالم". وهو ما يطرح سؤالًا هامًّا: "لماذا لم يخرج الفلسطينيون حتى الآن من قطاع غزة هربًا من الموت؟".

بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، حتى السابع من تشرين الأول/أكتوبر، يُمنع الفلسطينيون من مغادرة غزة عبر إسرائيل "التي تحد القطاع شمالًا وشرقًا"، ويشمل ذلك المرور منها إلى الضفة الغربية ما لم يحصلوا على تصاريح الخروج التي تُصدرها السلطات الإسرائيلية. ولا يستطيع سوى الأشخاص الذين ينتمون إلى فئات محددة، مثل: التجار والمرضى ومرافقيهم العاملين في مجال الإغاثة، تقديم الطلبات للحصول على هذه التصاريح. ولا يُعدّ الأشخاص الآخرون مؤهلين للحصول على التصاريح حتى ولو لم يكونوا يشكلون خطرًا أمنيًّا، وفقًا لسلطات الكيان الصهيوني. وفي معظم الحالات، لا تُبدي السلطات الإسرائيلية أسبابًا محددة لرفض طلبات التصاريح. وفي حال الموافقة على أحد هذه الطلبات، يجوز لحامل التصريح أن يسافر عبر معبر "إيرز" الذي تسيطر إسرائيل عليه، من الأحد إلى الخميس، وفي أيام الجمعة للحالات الطارئة والرعايا الأجانب دون غيرهم.

في حديثنا اليوم، نتابع ما تطلبه السلطات الإسرائيلية من سكان قطاع غزة، وهو النزوح من الشمال إلى الوسط والجنوب، ثم من وسط القطاع وجنوبه إلى المجهول. أما حكومات العالم فتتابع في صمت ما يحدث، وترى أن هذه الدعوة منطقية؛ ما يؤكد رغبة حكومة الكيان الصهيوني في حماية المدنيين، مع أن هذا الكيان نفسه قتل ما يفُوق الـ 15 ألف إنسان، وخلَّف ما يقرب من 50 ألف جريح، و7000 آلاف مفقود، حتى إن نسبة الأطفال تخطت 50% بحسب منظمة الصحة العالمية.

الآن، باب النجاة الوحيد أو الخروج المؤقت، هو تخلي الفلسطينيين عن أرضهم وبيوتهم في ذلك السجن الكبير، كما يحدث اليوم من تهجير قسري وقتل وإبادة لِمن لم يجد مكانًا يأوي إليه: كالشارع، أو مخيمات اللاجئين التي تُقصَف أيضًا مع المستشفيات، وكل معسكرات الإيواء التابعة للمؤسسات الدولية، حتى يتحول المشهد اليوم إلى هروب نهايته الموت، ومطاردة مستمرة لكل من هو فلسطيني يعيش داخل هذا السجن. إنه مشهد يشبه ما تعرضه المسلسلات الأميركية، التي كانت تُصوِّر القتلة المتسلسلين وهم يتلذذون بمشاهدة معاناة ضحاياهم قبل الموت الحتمي. هذه المشاهد التي رأيناها في غزة حتى يومنا، كانت تُصوَّر على اعتبار أنها مشاهد مرعبة من خيال صانعي السينما الهوليوودية.

ما لا يخجل العالم من الإشارة إليه من تلك المناشدات والمطاردات اليوم على اعتبار أنه إنسانية، وتبرير ما يعقبها من القتل والإبادة، هو ذاته ما فعله الاحتلال على مر سنين طويلة، عانى فيها سكان القطاع الحبس داخل أرض ضيقة كالسجن الكبير، وهو ذاته ما طلبه منهم بتبجح شديد الآن أن يغادروا إلى المجهول. هذه المغادرة قد تكون واحدة من أحلام مستحيلة للفلسطينيين طيلة السنوات الماضية، ولكن بأمر الكيان الصهيوني لم يحصل أحدهم على حقه الأصيل في السفر والعودة إلى أرضه وقتما يشاء، كما حال الإسرائيليين الذين ينعمون على بعد كيلومترات بحياة مكفول فيها الحقوق الأساسية. كل هذه المؤسسات الأممية التي تشجب وتدين ما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لم تتحدث يومًا واحدًا بحبس أكثر من مليوني إنسان داخل مساحة لا تسعهم، محرومين كل حقوقهم الأساسية، وأهمها حرية السفر. والآن يقفون صامتين أمام الحكم عليهم بالتهجير المتتابع أو القتل.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive