الرجوع

إلى روح "الشهيدة" شيرين أبو عاقلة

الإثنين

م ٢٠٢٢/٠٥/١٦ |

هـ ١٤٤٣/١٠/١٥

فُجعت الإنسانية كلها منذ أيام بمقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، برصاصة غادرة من قوات الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جنين بفلسطين. بدأت حملة تعاطف واسعة وصفت الراحلة بـ"الشهيدة"، التي ضحت بحياتها من أجل ألَّا تُنسى قضية فلسطين شعبًا ووطنًا. بعد ساعات من انتشار الخبر، تحركت آلة فتوى فقهية ذات توجه سلفي انغلاقي، لكي تقول للمسلمين الذين ترحَّموا عليها: إنهم قد اقترفوا "إثمًا مُبينًا" يجب التراجع عنه. وقد فوجئتُ شخصيًّا بمقالات كُتبت بعد ساعات من استشهاد الفقيدة، من أجل التأطير الديني لمواقف المسلمين وردود فعلهم، من خلال فقه أراه جاهزًا وميكانيكيًا، عاجز عن التفاعل مع عمق الموقف وعظمته، الذي يضحي فيه إنسان ما -مهما كان دينه- بحياته من أجل قضية إنسانية عادلة.

شهدنا في حقيقة الأمر ردة أخلاقية عميقة، شكلت اغتيالًا ثانيًا للشهيدة، بل وأحسب أنها خيانة للقضية الفلسطينية، بصفتها قضية إنسانية تكاد تكون كونية. أصبحت مواقع التواصل فضاءً لسجال وأسئلة مؤلمة ومحبطة، كنت أعتقد أنه قد مضى أوانها، مثل: هل يمكن -إسلاميًّا- اعتبار أبو عاقلة شهيدة؟ وهل يجوز الترحم على شيرين أبو عاقلة لأنها ناصرَت القضية الفلسطينية؟

جرى إنزال العشرات من النصوص الدينية المنزوعة من سياقاتها التاريخية، من أجل إثبات أن الشريعة الإسلامية -قرآنًا وسُنَّة وإجماعًا- تَحُول دون اعتبار شيرين "شهيدة"، لأنها ليست مسلمة، وهو جزء من عقيدة الولاء للمسلمين، والبراء من غير المسلمين. وبدل أن يكون استشهاد الفقيدة محطة نراجع فيها أُطُرنا الدينية، انطلاقًا من هذه الإنسانية المشتركة، كرست هذه المواقف عقيدة، يُفترض أنه لا مكان لها في إنسانيتنا الحديثة، ولا في مجتمعاتنا المتطورة، بل كرست عقيدة تفصل الكثير من المسلمين ذهنيًّا وأخلاقيًّا عن باقي المجتمعات الإنسانية.

تجدر الإشارة إلى أن مصر شهدت من قبل سجالًا طرح الأسئلة نفسها، حول جواز "اعتبار الجندي المسيحي الذي يسقط في الحرب "شهيدًا" دفاعًا عن الوطن". رفض السلفيون شرعية "منح" المسيحيين هذه "المنزلة العظيمة "لأنهم "كفار"، في حين اتخذ الأزهر موقفًا إيجابيًّا، معتبرًا أن الجنود الأقباط "شهداء" بذلوا حياتهم مخلصين لله من أجل مصر، مستدلين بالحديث النبوي الذي يفيد عمومًا أن مَن قُتل من أجل أرضه وعرضه فهو شهيد، ومعتمدين على تأويلات إيجابية انطلاقًا من العديد من الأحاديث النبوية، التي تؤكد أن "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس"، وهو ما عبر عنه الشيخ الأزهري أحمد كريمة في مقابلة تلفزيونية. وعندما نتأمل معاني الشهادة عند علماء الإسلام والمفسرين، يتضح بجلاء أن شيرين أبو عاقلة شهيدة بكل المعاني، روحها لا تزال شاهدة، وستظل في ذاكرة كل الشرفاء في العالم، ثم إن محيطها يشهد لها بحسن نيتها وإخلاصها.

تجعلنا تضحية شيرين نعي مرة أخرى الحاجة الملحة إلى تحول لاهوتي عميق، يبدأ بتوسيع مجال الحضور والرحمة الإلهية، ليتجاوز المسلمين/ات إلى كل مؤمني/ات العالم. أيضًا يجب أن نعيد بناء فهمنا لله من خلال المسارات الإنسانية؛ فالله ليس كائنًا أسيرًا لمقولات فقهية متهالكة، بل إنه الله الحي من خلال الروح المتجددة للإيمان، ومن خلال التساؤلات الصادقة التي طرحها ويطرحها منذ أيام الملايين من المسلمين، مثل: "كيف لا تكون الجنة والشهادة لمن كرست حياتها وضحَّت بها، لتنقل للعالم معاناة شعب بأسْرِه؟!". هكذا يصبح الالتزام الأخلاقي للقضايا الإنسانية العادلة، هو الطريق الحقيقي إلى الله.

أثار استشهاد الفقيدة سجالات بين "إسلام قديم" يعتمد على التمسك بفهم غابر، وإسلام حي يكشف عن تحول إيجابي عميق لدى الكثير من المسلمين. فرغم عملية "الردة" التي حاولت بعض الأوساط الدينية خلقها، من خلال جعل الكثير من المسلمين يتراجعون عن ترحمهم على شيرين، وقناعتهم بأنها "شهدت" أمام الله على إخلاصها - قاوم الكثيرون/ات هذا العنف الممارس ضد صدقية ردود أفعالهم، من طرف أشخاص لا يزالون يعتقدون أنه يجب علينا أن نقرأ الكتب القديمة و"العنعنات"، قبل أن نعبِّر عن مشاعرنا بوصفنا بشرًا كرمنا الله بالعقل والإيمان معًا. أيضًا سَخِر العديد من المسلمين من النبرة الوثوقية، لأشخاص أصبحوا ظواهر صوتية لأصنامهم وأوثانهم، وهم يحاولون إقناعنا بأن الله هو من يمنعنا من أن نعبِّر عن رجائنا أنْ يتقبل الله الشهيدة أبو عاقلة في رحمته وملكوته. أصرَّ الملايين من المسلمين/ات، ثائرين على كهنوت متكلس، على الدعاء للفقيدة بالرحمة، مقتنعين/ات بأن الله هو الرحمة والحب، وأنه يحبنا كلنا كعياله.

أيضًا عبَّر الملايين من المسلمين/ات عن رفضهم لهذا الفقه المغلق على الإنسانية، والذي يحمله أشخاص نصبوا أنفسهم ناطقين باسم الله، وبنَوا جنة يمتلكون مفاتيحها، متناسين أن القرآن يصف تلك الأفكار بـ"الأماني" الواهية؛ إذ لا أحد يملك السلطة الدينية للحسم في مسألة خلاص شخص ما، وكأنَّ لسان حال الكثير من المسلمين/ات يقول: لا حاجة لنا إلى جنة، ولا إلى رحمة تحتكرونها، لأن الله أكبر من ذلك وأجلّ!

رحمة الله عليك أيتها الشهيدة، ولْتَسكن روحك الملكوت. والله أعلم 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive