الرجوع

الأدب في زمن كورونا

الإثنين

م ٢٠٢١/٠٣/٢٢ |

هـ ١٤٤٢/٠٨/٠٩

يستمر فيروس كورونا في التفشي في نسق متسارع، حيث تَجاوز العالمُ الـ 120 مليون إصابة. ويبدو أن جائحة كورونا التي غشِيَت العالم كله، استطاعت أن توقف عجلة الحياة، وقد تُغيِّر مجريات السياسة والاقتصاد والفن والعلم والتعليم في كل مكان. والقطاع الثقافي والأدبي العربي لن يكون بمعزل عن كل هذه التغيرات، خاصة وأن الأدب بمفهومه الواسع عالَم مُوازٍ للواقع، يتماهى معه ويستند إليه، ليشكل في النهاية عالَمًا ذا كينونة خاصة، شاهدة على حياة ما في زمن ما، من خلال بُنْية لغوية دالَّة. 

ومع أن القطاع الثقافي والأدبي بشكل عام -وقبل جائحة كورونا- حائر ومكبل بقيود الرقابة، ويعاني الإهمال منذ عقود، سواء على صعيد الإنتاج الأدبي الإبداعي، أو على صعيد دعم المثقفين والأدباء -فرادى أو على مستوى العمل الجماعي العام-؛ فإننا لن نكون منصفين/ات إذا ما صُغْنا رأيًا مكتمِلًا محيطًا به خلال الجائحة. فقد ظهرت مع بداية إجراءات الإغلاق حالةٌ متواضعة من الحَراك الأدبي عبْر مِنصَّات التواصل الاجتماعي، تمثلت بإقامة العديد من الفعاليات الافتراضية، مثل مناقشة بعض الأعمال الأدبية والمناظرات الشعرية.

لمّا كانت الواقعية تتخذ صفة خاصة في بلادنا، فقد وظف كثير من الأدباء الجائحة في نصوص سردية، عادلت شقاء الوعي الإنساني بمعاناته التي فرضتها الجائحة. ولم تدفعهم الجائحة إلى الكتابة فحسب، وإنما إلى العودة إلى الذات، والانزياح لدى بعضهم -سواءٌ روائيِّين/ات كانوا أو كُتَّاب/كاتبات قصة أو شعراء/شاعرات-، عن الطرق الأكاديمية المختصة، إلى الاشتباك الأدبي بالواقع وتداعياته والمستقبل المبهم. والأديب الحقُّ، ليس من يصور الواقع فقط، ولكنه أيضًا الذي يربط هذا الواقع بالتاريخ والتراث، ويصور المستقبل، ويتنبأ باللامعقول، ويُسقط أحداثًا وقعت بالفعل على أحداث على وشك الوقوع، ولا يُبعد الناس عن مشاكلهم وقضاياهم المُلحَّة. 

الحقيقة، أن علاقة الأدب بالكوارث علاقة جدلية، إذ إن أغلب أدب الكوارث سابقًا كُتِب خارج سياق الكارثة، إما بعدها أو قبلها، أيْ على شكل نبوءات. وقد جسد الكثير من الأدباء علاقة الإنسان بعالَمَيْه الخارجي والداخلي، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقته بالحياة والحب والموت -في كوارث سابقة- في روايات خالدة، مثل: "الطاعون" لألبير كامو، و"الحب في زمن الكوليرا" لماركيز، و"العمى" لخوسيه ساراماغو. ومما لا شك فيه أن رواية مثل "الطاعون"، بما اتسمت به من غموض وسحر ودهشة الرمزيات المخفية بين السطور، قد شكلت صرخة فلسفية، جعلت من التكثيف الخيالي مجالًا للتعبير الباذخ عن عبثية الوجود، علمًا أن مدينة وهران االجزائرية –والتي بنَى فيها "كامو" أحداث روايته الوهمية- لم تَعرف الطاعون في أربعينيات القرن الماضي، بل عرفت الكوليرا قبل ذلك التاريخ بمئة عام. 

أما الآن، وقد اختبر صناع المشهد الأدبي –في ظل جائحة كورونا- التنازع القائم بين الموت والحياة، والتقدم والتخلف، والخير والشر، والعلم والجهل، والصحة والمرض، والسياسة والتسييس، وهي ثنائيات تعطي الحياةَ معناها، والتقدمَ سيرورته؛ فسيكُون بمقدورهم التقاطُ التفاصيل وهي تتغير، إذ لا يمكن تجاهُل ما تراكَم من تجارب وخبرات وإخفاقات وخيبات في زمن كورونا، ولا يمكن إغفال اللحظات البهيجة والحزينة الخاصة والعامة، ولا اللحظات الحرجة من تاريخ البشرية أيضًا. ومن هنا، وفي وسط هذه الفترة التي تعجُّ بالتحولات، قد تكون الحركة الأدبية المعاصرة على موعد مع ظهور تيار مهم وجاد ولو بعد وقت، إذ ما من أدب حقيقي شق طريقًا جديدًا في سنة أو سنتين، مهْما كان التطور الفكري واللغوي سريعًا. فالمسألة تحتاج إلى زمن يُغَربل التجارب.

 

نحن أمام حقيقة أن جائحة كورونا بكل تفاصيلها، بدءًا من اكتشاف أول إصابة في "وُوهان" الصينية، مرورًا بحالة الجمود التي مر بها العالم، ووُصولًا إلى اللَّقاح الذي حققته الثورة العلمية، والحلم بعودة الحياة إلى طبيعتها، والمفارقة التي تتعمق على نحو لا يُحتمل، حين يناط تحقيق الحلم بموعد مؤجل مرتبط بوصول اللقاح إلى أكبر شريحة ممكنة من البشر - كل ذلك أدى إلى انعطافة ستسجلها الذاكرة الفردية والجمعية. وكما تمخضت ظاهرة الاعتقال السياسي في العالم عن ظهور أدب السجون، والكوارثُ عن ظهور ما يسمى بأدب الكوارث، فإن جائحة كورونا ستشكل ذاكرة في الأدب العالمي والعربي وتَلاحُمًا -وإن كان عسيرًا-، لِيَنتج في ضوئها أعمالٌ يمكن أن تتوالد وتنتشر بين الناس، بِغَثِّها وسمينها. 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive