الرجوع

الترويض على الطاعة العمياء في الاستبداد

الخميس

م ٢٠٢٠/١٠/٠١ |

هـ ١٤٤٢/٠٢/١٤

في التربية يكون الكائن البشري فاعلًا، في الترويض يكون الكائن البشري منفعلًا. التربية تنبني على مسلَّمة ترى كل إنسان نسخة ذات تميُّز وفرادة، تمتلك طاقة جوَّانية ينبغي أن تنبعث، كي تتشكل شخصيته المستقلة. الترويض ينبني على مسلَّمة ترى الناسَ أشياءَ تأخذ شكل القالب الذي تنسكب فيه، لذلك ينبغي أن يصير الكل نسخة واحدة، متماثلةً ملامحها، متشابهة مواصفاتها، مُحاكيةً خصائصُها لغيرها.

الترويض عملية تدجين تنقض فلسفة التربية وأهدافها في بناء الإنسان وتأمين سلامته النفسية، وتكريس سكينته الروحية، وإحياء ضميره الأخلاقي، وتحطيم أغلال عقله وفك قيود تفكيره. تنشد التربيةُ إيقاظ الطاقة الكامنة في روح وقلب وعقل هذا الكائن، في حين ينشد الترويضُ تنميطَ شخصيته وسكْبَها على شكل قالب متحجر لا يتبدل.

تعمل السلطة في الاستبداد على أن تعتمد التربية في العائلة والمدرسة والمجتمع التلقين. يشلّ التلقينُ العقلَ ويعطِّل التفكير، ويطفئ الروح ويميت الإيمان الحر. بالتلقين والتكرار تَظهر الأوهام والخرافات والأكاذيب كأنها حقائق. الحقيقة هي ما يُظهره التكرار على أنه حقيقية، وما يحسبه الذهن حقيقية، وإن لم تكن كذلك في الواقع. معظم الصراعات والحروب والمجازر البشرية سبّبتها أوهام وأكاذيب وسيناريوهات ومعتقدات افتعلتها أذهان محترفة.

لا تنشد التربيةُ والتعليم في الاستبداد تعليمَ التفكير، وترسيخَ مبادئ الحق في الاختلاف، والحق في الخطأ، والحق في الاعتذار عن الخطأ، بل تنشد تكريسَ الطاعة العمياء والإذعان والرضوخ والعبودية الطوعية، عبر تنميط شخصية التلميذ، وإنتاج نسخٍ بشرية متماثلة، تفتقد ملامحَها الشخصية وبصْمتَها الخاصة، فيتوالد الاستبداد بوصفه نتيجةً طبيعية لكل ذلك.

تُشدد كل برامج وتعليمات وقرارات المستبدّ على ترويض الكائن البشري وتدجينه على التكيف الاجتماعي بالإكراه، ويعتمد في ذلك أداتين: التلقينَ الرتيب المتشابه المُمِل حدّ القرف، والتخويفَ والعقاب الأليم والبطش على أية مخالفة مهما كانت صغيرة، وأحيانًا يتمادى المستبِدّ في ذلك فيحاسب حتى على النوايا المضمرة.

تُهدَر في الاستبداد الكرامةُ، وبإهدارها تموت المسؤولية وتختفي، ويتحول الكائن البشري إلى مسخ. يشدد المستبد على طمس كل أنواع الاختلاف، وإنتاج نسخٍ متشابهة لكل البشر، وكأنَّ كل الناس في ظاهرهم نسخةٌ واحدة تُكرّر نفسَها. العمل على تعطيل الاختلاف ينتج تعطيلَ الإبداع الخلّاق والابتكار والتطور.

في المجتمعات التي يتوطن فيها الاستبداد طويلًا يتلاشى تقدير الكثير من الناس للذات، ويختفى معنى الفرد. المستبد يتعامل مع الكل وكأنهم نسخة واحدة، من دون اهتمام بمكانتهم العلمية والأخلاقية والروحية. يعجز الشخصُ المهدور الكرامة عن تقدير قيمة الكرامة، ويتعامل مع الغير من دون أن يهتم باحترام كرامتهم ومقامهم، إلا عندما يشعر بالخوف.

الأنظمة الشمولية المستبدة يقلقها استقلال الكائن البشري وفرديته، لأن استقلاله وفرديته هو الطريق الوحيد لتقويض هذه الأنظمة. تخيف الأنظمةَ الشمولية حريةُ الكائن البشري في التفكير والتعبير واتخاذ المواقف المستقلة “بالاعتماد على فهمه خاصة”، كما هو شعار التنوير عند كانط.

سرُّ التخلف في بلداننا يكمن في تواصل الاستبداد وتمويهه في التعبير عن نفسه بأنماط وأقنعة ودرجات مختلفة، الاستبداد يضرب كل مفاصل الحياة ويُحدث شللًا في كل المؤسسات العامة، ويُحدث اختلالات في حياة الفرد والعائلة، تتسبّب في خلق شخصية مأزومة. الاستبداد يتغلغل في النفس البشرية ويلبث مترسبًا في أعماقها، ويتغلغل في مختلف مرافق المجتمع، ويعيد إنتاج العلاقات وكل شيء على وفق ما يرمي إليه، بنحوٍ يجعل الناس مستعدين للاستعباد، ويذعنون للاستبداد بشكل طوعي بعد موت المستبد.

لا نرث الاستبداد في جيناتنا، الاستبدادُ ليس قدرًا حتميًّا لمجتمعاتنا، وليس سجنًا أبديًّا لشعوبنا، كما يشاع في بلادنا، ويعمل على تغذيته بقناعة أو بلا قناعة بعضُ الكتّاب والأدباء. الإنسان في مجتمعاتنا كامل الإنسانية، لا يحتاج كالسفيه إلى من يتولى تدبير شؤونه، هو إنسان تامُّ الأهلية ليس محجورًا عليه، ليس نصفَ إنسان أو شبه إنسان. هذا القول محاولة واعية أو غير واعية لاستمرار الاستبداد وشرعنته. تَأصُّل الاستبدادِ يعود إلى مكوثه الطويل المرير، الذي أنتج شلل العقل، وانحطاط الوعي، وفشل الدولة.

كل مواطن يبحث عن نظام يكفل له كرامته ويسترد حريته. الإنسان يرفض بطبيعته الاستبداد، لأن جوهر إنسانية الإنسان كرامته، وجوهر الكرامة الحرية، وجوهر الحرية المسؤولية. الاستبداد يهدر الكرامة وكل أشكال الحرية، إهدارُ الكرامة والحرية نفيٌ لمسؤولية الإنسان حتى عن نفسه. ليس هناك إنسان يقبل بسلب كرامته وحريته، الإنسان المدجّن على العبودية يرتضي التنازل عن حريته، الإنسان وفقًا لطبيعته البشرية توَّاق إلى الكرامة، توَّاق إلى الحرية، توّاق إلى المسؤولية.

لا يمكن بناءُ الدولة الحديثة من دون إعادة بناء معنى الإنسان والفرد والمواطن، في سياقٍ يحررهما من رواسب ذاكرة الراعي والرعية، بوصفهما مرآةً لتقاليد القطيع، والمؤسَّسةِ على مفاهيم وقيم مشتقة من الرعية في دولة الخلافة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive