الرجوع

تباعُد اجتماعي

الأربعاء

م ٢٠٢١/٠٤/٢٨ |

هـ ١٤٤٢/٠٩/١٧

قد تبدو عبارة "تباعُد اجتماعي" -خصوصًا بالنسبة إلى جيل الألفية الثالثة- كلمة مرتبطة بانتشار وباء كورونا، إلا أنَّ من وُجد قبل ظهور الإنترنت، ثم عاصر بداية ظهوره أيام المنتديات وغرف الدردشة، ولاحقًا برامج التواصل الاجتماعي المختلفة مثل الفيسبوك والتويتر وإنستغرام وغيرها - يَعلم بأن التباعد الاجتماعي بدأ يظهر تدريجيًّا، قبل ظهور هذا الوباء بحوالي عشرين عامًا! 

قبل مدة، حكَت لي صديقتي مَوقفًا حدث لها في رحلة عمل إلى دولة أوروبية. قالت: كنتُ أتمشى على الجسر المطل على النهر، وكان منظر الغروب ساحرًا، فأحببتُ أن آخذ صورة لي أمام المنظر لأوثِّق اللحظة. طلبتُ بلطف من أحد المارَّة أن يصورني، فاستغرب طلبي وهز كتفيه متضايقًا، وهو يشرح لي أن هناك اختراعًا جديدًا اسمه "عصا الهاتف"، أستطيع أن أستخدمها لتصوير نفسي "سيلفي". وإنْ كنتُ لا أملك واحدة، فببساطة أستطيع أن أمد ذراعي أمامي وأصور نفسي. فشعرتُ بصدمة وبإحراج شديد، واعتذرتُ إليه! 

كانت هناك فتاة لطيفة تستند إلى السور المطل على النهر، وهي تدخن سيجارة. ظننتُ أنها سمعَت الحوار الذي دار، وشعرتُ وكأنها ملزَمة أن تعتذر إليَّ بالنيابة عن ذلك الشاب، ربما لأنهما من نفس البلد. تابعَت صديقتي: كنتُ مرتبكة، وأخبرتُ الفتاة بأني لا أملك هذه العصا، ولو مددتُ يدي لم يَظهر المنظر كاملًا، وقد لا أزور هذا المكان ثانية في حياتي كلها. ثم أضافت: وبعد أن ساعدَتني على أخذ الصورة، دردشنا قليلًا حول تغيُّر التعامل بين الناس بسبب تطور التكنولوجيا، وكيف كان من الطبيعي جدًّا حتى وقت قريب، أن يَطلب أحدُهم من المارة أو من سائح آخر مثله، أن يأخذ له بعض الصور. وإنِ اعتذر أحدهم، فغالبًا ما يكُون بسبب موعد، أو لأن قطارًا سيفوته، أو غير ذلك! 

هذه العصا -وإن بدَت عملية جدًّا- زادت من استغناء بعض البشر عن بعض، ومن عزل بعضهم عن بعض، وبسببها أيضًا أصبحت كل صور الناس في العالم، تكاد تتطابق في الشكل والبعد والطريقة!

هذا التطور التكنولوجي الهائل يُبدِّد بالتدريج كل فرصة تواصُل طبيعي بين الناس، ويعمِّق شعورهم بالغربة. وأيضًا إنْ تِهتَ يومًا في طريق ما، فالخريطة المحمَّلة في هاتفك ستُغنيك عن أي تواصل مع المارة ليدلُّوك على الاتجاه الصحيح! بلا شك، التطور شيء جميل. وقد سهَّل تواصُلَ البشر بعضهم مع بعض، من أي مكان وفي أي لحظة حتى بالصوت والصورة، واختَصر وقت الإنسان الذي صار يَحجز ويَدفع ويحوِّل الأموال ويتراسل مع رؤسائه في العمل، وهو جالس على "الكنَبة" في بيته. يكفي أننا بِنَقْرة واحدة نستطيع أن نقرأ أيَّ كتاب، ونصل إلى المعلومة التي قطع الباحثون بلادًا وبُحورًا ليصلوا إليها. لكن، لكل تطوُّر ثمن! 

أتخيَّل مثلًا عناء "ابن عربي" في بحثه المُضْني وتنقُّلِه الطويل بين البلاد، وكم قابَل من عِباد، وكم كوّن من أصدقاء وأعداء! وكم تعرَّف إلى بلدان لكل منها عادات وأكلات وأزياء ولغات ولهجات، وكم ركِب من جمال وأحصنة وسُفن، وكم نام في خانات أو بيوت! وكم خاف، وكم اطمأنَّ! وكم بكى، وكم ضحك! وكم مرض، وكم تَعافى! 

حاليًّا، نصل إلى المعلومة، لكن لا نصل إلى التجربة! نصل إلى الكِتاب، لكن لا نصل إلى أرْفُف المكتبات، ولا نعرف رائحة الكتب العتيقة! أيضًا سطا العالمُ الافتراضي على تلك الساعات القليلة، التي نقضيها في العالم الواقعي. فاختفت تلك النقاشات الأسرية الصاخبة، ونحن نجلس إلى طاولة الأكل، وقلَّت الضحكات التي نتبادلها مع الأصدقاء في النُّزهات. فهذا يصور الأكل، وهذه تأخذ "سيلفي"، وذاك يردُّ على تعليق، وآخر يُجري مكالمة، وأخرى تهز رأسها لتؤكد لك أنها تستمع لك، في حين عيناها وكل حواسها على الجهاز الذي تحمله في يدها! 

كأنَّ الحياة لم تكتفِ بكل هذا التباعد الحاصل. فظهر لنا هذا الوباء، ليصل بالتباعد بين الناس إلى أقصاه، وصِرنا نعمل عن بُعْد، وأطفالنا يَدرسون عن بُعد. وعندما نجتمع نجلس مبتعدين بعضنا عن بعض حوالي مترين، نخاف أن نقترب أكثر، لأنه أصبح في القرب موت محتمَل، وفي البعد نجاة! 

كم تبدو الحياة موحشة، وكأنَّ العالم الذي عرفناه يذوي ويَضْوي، وسنتذكره بعد مدة بكثير من الحنين، تمامًا كما فعل كل من اختفى عالمهم قبلنا. سنكون كذاك العجوز الذي باع حصانه، بعد أن ازدحمت الطرقات بالسيارات والآليّات، ومِثل ذلك الذي علَّق سيفه على الجدار، وذهب ليبتاع رصاصة وهو يبكي. وسنغضب مثل حمام زاجل لم يفهم لماذا خانه صاحبه، واستغنى عنه الجميع فجأة!

لكننا في نهاية الأمر.. في نهاية الأمر تمامًا، سنجد ما نحكيه لأحفادنا!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive