الرجوع

رمضان بين شهر للعبادة وفرصة للاستعباد

الإثنين

م ٢٠٢٢/٠٣/٢١ |

هـ ١٤٤٣/٠٨/١٨

ماذا سأفعل في رمضان هذا العام؟ حين أفكر في الشهر المبارك أبتسم تلقائيًّا عند تذكُّر التقاليد المرتبطة به، والحياة الروحية التي تميزه، والروتين الجديد الذي يبدأ وينتهي معه. لكن هذا الشهر يتغير معناه مع تغير المراحل العمرية والتجارب الشخصية. في مراهقتي، كنت أنا وأصدقائي نستغل هذه المدة من السنة لإعادة تصنيف مستوى "أخلاق" زملائنا، والمحيطين بنا. كيف نعرف ذلك؟ ببساطة كنا نعتبر أن لدى الصائمين/ات معدَّلَ إيمان عاليًا. فنشعر بالراحة تجاههم/ن، ونضع على جبينهم نجمة "التديّن"، ونمنحهم شهادة الأخلاق العالية. أما المفطرون/ات، فيا ويلهم من نظراتنا الحادة وتجاهُلنا لهم.

كانت الكثير من أيامي الرمضانية تضيع، وأنا أحاول إخفاء إفطاري بسبب الدورة الشهرية. يجب ألَّا يراني أحد وأنا آكُل، و"عيب يعرفوا شو السبب". ومن جهة أخرى، كنت قد تعودت سابقًا تبرير غضب "الرجال" في هذا الشهر لأنهم جائعون؛ إذ هذا الأمر ليس بالسهل حتى على "أصحاب القوة/العزم". لقد كان التفكير في إمكانية عدم الصوم من دون أي "عذر شرعي"، من سابع المستحيلات، لا لأني "متدينة 100%"، بل لأني تأخرت حتى أعرف أن: "الله لن يخنقني" إنْ أفطرتُ بسبب تعب جسدي، أو لحاجتي إلى الراحة لا أكثر. 

"مَن ختم القرآن الكريم؟ ومن صلَّى المغرب قبل الطعام؟ ومن أطعم مسكينًا أو يتيمًا؟ ومن أحيا ليالي القدر كافة؟"، هذه الأسئلة وغيرها، شكلت معاييري الدينية المتّبعة في سنوات مضت لا تشبهني اليوم. لماذا كل هذا؟ لأن الذين كانوا يحصلون على أعلى النقاط "يكونون الأفضل"، ونطلب منهم الدعاء، معتقدين أن الله يسمع لهم أكثر. أعي تمامًا أن صوم شهر رمضان الكريم عبادة، وأنه يجب الاستفادة من هذه المدة لتغذية الروح والتقرب إلى الله. ولكن، هل "تجوز" هذه المسابقة الرمضانية التي كنا نستمتع بتنظيمها لتصنيف من حولنا؟ 

لا أكتب الآن بغية البحث في أشكال العبادات في رمضان، إذ أترك هذا الأمر للعلماء والمختصين. لكن، ماذا لو استبدلنا أداة الاستفهام "مَن" بِـ"كيف"، في المعايير المذكورة، ثم أعَدْنا صياغة الأسئلة السابقة كالآتي: "كيف أختم قراءة القرآن الكريم؟ وكيف أُصلِّي؟ وكيف أقدِّم مساعدتي؟"؟ كثير من الصائمين/ات يمنحهم الصوم الشعور بالأفضلية أو حتى الفوقية، وكأنهم ضَمِنوا الجنة، واستحقوا الحب الإلهي أكثر من غيرهم. ربما تُشجع هذه القناعة بعضهم على التفاخر بالغضب من المفطر، أو تدفعهم إلى الإصرار على إغلاق المطاعم، أو تحريم الأكل بشكل ظاهر لغير المسلم، وُصولًا لتوبيخ اللاديني الذي لا يريد الصوم. 

الحياة الروحية تتغير وتنمو وتنضج كالإنسان. ولو كانت شيئًا جامدًا لا يتأثر بعمرنا وخبراتنا وقيمنا، لحذفنا منها كلمة حياة، لا بل كنا جعلناها كالثوب الجميل الذي نشتريه في سن معيَّنة، ثم نُصرُّ على ارتدائه مدى العمر، بغض النظر عن التغيرات التي تحدث لنا ومن حولنا. كثير منا يعي أن هدف الصوم هو تعوُّد النفسِ العطاءَ والصبر، وترويض الذات، وتحرير إرادة الإنسان من الماديات، والحث على الشعور بالآخر وخاصة الفقراء. فأين نحن من ذلك؟ إن تركيز بعضنا على من يفعل، وعلى من لا يفعل، لانتقاد الآخرين، أو للتحريض ضدهم، أو لإجبارهم على الصوم والصلاة - يحوّل مغزى رمضان من شهر للعبادة إلى فرصة لاستعباد الآخر والتحكم فيه. 

غرِقْنا في فكرة الصوم "عن كذا". فكانت طبيعة صوم كثير من الناس، هي عن الأشياء المفطرات فقط: كالطعام، والشراب، والجنس... إلخ. لكن، بالعودة إلى أهداف هذا الشهر، يتضح أن فكرة الصوم "من أجل كذا"، هي الغاية المنشودة، أيِ الإجابة عن سؤال: "لماذا نصوم؟"، حيث ترمي إلى تحقيق مجموعة من القيم: كالصبر، والصدق، ومساعدة الآخر، والإرادة الصلبة... في السياق نفسه، يذكِّرني مبدأ الانقطاع عن الطعام، بما يقوم به أيضًا بعض الأسرى/الأسيرات في المعتقلات والسجون. فهم يُضْربون عن الطعام لتحقيق مطلب ما، أو للحصول على حق مسلوب. يُعتبر هذا الإضراب وسيلة إلى المقاومة السلمية. وهنا نقترب من فلسفة فكرة "الصوم من أجل كذا"، لتحقيق هدفٍ سامٍ، أكثر من التركيز فقط على الابتعاد عما هو ممنوع على الصائم/ة تناوُله. 

الجوع والعطش والحرمان والتعب، عوارض يشعر بها الصائم/ة. وذلك هو أيضًا حالُ الكثير من الناس الذين يعيشون في بلد -كلُبنان- يعاني الانهيار المالي والاقتصادي. لذلك، لا تقلقوا من ازدياد عدد المفطرين/ات أو نقصانهم بعد اليوم؛ إذ كثيرون/ات بدأوا بالصوم عن الطعام والشراب منذ عدة أشهر. فما الجانب المميز الذي سيُضْفيه علينا شهر رمضان هذا العام؟ برأيي، لا شيء. نعم لا شيء! فالإنسان هو الغاية، وليس الشهر في حد ذاته. فنحن من نصنع روحانية الشهر الفضيل لا العكس، وإلّا انتهى كل شيء مع الحلقة الأخيرة من المسلسلات الرمضانية التي نتابعها.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive