الرجوع

شهادة المرأة: في الحاجة إلى فقه جديد

الثلاثاء

م ٢٠٢٢/٠٣/٢٢ |

هـ ١٤٤٣/٠٨/١٩

قبل أيام من الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، طُلب مني أن أدلي بشهادتي بشأن حضانة فتاة من طرف أمها. كانت مفاجأتي كبيرة عندما أخبرني "العدل" (أي المُوثِّق الشرعي بالمغرب)، أن شهادة امرأتين تُعادل شهادة رجل واحد في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية. وهذه قضايا ذات طابع اجتماعي، بل إنه في حالات أخرى لا تكون شهادة النساء مقبولة أصلًا. تعتمد هذه القوانين التمييزية على الآية القرآنية: {واستَشهِدوا شهيدَينِ مِن رجالكم فإِنْ لم يكونا رجُلَين فرجُلٌ وامرأتان ممَّن تَرضَون من الشهداء أَن تَضِلَّ إحداهُما فتُذكِّرَ إحداهما الأخرى}. يجب أن نعترف بأن هذا النص -كما النصوص القرآنية الأخرى-، شكَّل في سياقه التاريخي والثقافي خطوة مهمة، في طريق الاعتراف للمرأة بحقها في العدل والمساواة، في زمن كانت فيه المرأة -عمومًا- بلا تمكين اقتصادي أو سياسي.

جرى بناء تفسيرات تمييزية انطلاقًا من قراءة حرفية لهذا النص، وأيضًا انطلاقًا من تصورات حول خصائص بيولوجية وإدراكية ونفسية للمرأة، تجعلها تميل إلى النسيان؛ ما يجعلها أقل جدارة بالثقة من الرجال. لكن تفسيرات أكثر اعتدالًا أشارت إلى أن هذا الحكم ليس راجعًا إلى اختلاف في قدرات طبيعية بين الجنسين، بل إلى عدم مشاركة النساء في المجال الاقتصادي. فهو حُكم لا يتعلق بقاعدة عامة، إذ لا يشمل إلا مجال المعاملات التجارية؛ أما الحالات القانونية الأخرى، فيُفترض فيها أن تكون محكومة بمبدأ المساواة.

لكن الفقهاء -عمومًا- سعوا إلى تعميم القاعدة لكي تشمل مجالات قانونية أخرى، مثل الأحوال الشخصية أو الحدود، معتمدين على الآية: {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم}. وجرى حصر شهادة المرأة الواحدة، في الأمور التي لا يُفترض في الرجال أن يطَّلعوا عليها، مثل: الولادة والرضاعة والعِدَّة وغيرها. لذلك، فإن الكثير من البلدان تَعتبر أن شهادة المرأة -قانونيًّا- هي نصف شهادة الرجل، متغافلة عن دخول المرأة ميدان العمل الاقتصادي والريادة الاجتماعية والسياسية؛ ما يُفقد الآية القرآنية علَّتها التشريعية.

 وبذلك، قام الفقه بإخراج النص القرآني من سياقه الثقافي والتاريخي، وبناء صورة جوهرية سلبية عن المرأة، من خلال أحكام تدَّعي الثبات والصلاح لكل زمان ومكان بذريعة الطبيعة الإلهية للشريعة، ورفَض اعتبار المرأة كائنًا يتطور داخل الصيرورة التاريخية. لقد تَوقَّف الفقه الإسلامي، في كثير من القضايا المرتبطة بالمرأة: كالتعدد، والإرث، وحق الزواج من غير المسلم، عند القرن الرابع الهجري. وهكذا، تحولت المرأة إلى موضوع فقهي، بدل أن تكون هي نفسها صانعة لفهم تطوري للإسلام، قادر على تحريرها. فيتوكَّأ الفقهاء على حديث منسوب إلى الرسول يقول فيه: "يا معشرَ النِّساء... ما رأَيْتُ مِن ناقصاتِ عقلٍ ودِين أَذْهَبَ لِلُبِّ الرجُل الحازم مِن إحداكن". قُلْنَ: وما نُقصانُ دِينِنا وعقلِنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادةُ المرأةِ مِثْل نِصف شهادة الرجُل؟". لكن هذا الحديث نفسه، يبقى نتاج السياق الثقافي الذي عاش فيه الرسول.

في الكثير من الحالات، أصبح الفقه عاجزًا عن بناء تفسيرات دينية قويمة مبنية على التقوَى والاستحقاق الأخلاقي، بل أصبح صانعًا لتفسيرات تهدر كرامة المرأة، وتساهم -إلى جانب الأعراف الاجتماعية- في صناعة الإعاقات الثقافية والاجتماعية والحضارية. وعندما تتصادم الأحكام الفقهية بالمقاصد القرآنية العليا والقيم الكونية لحقوق الإنسان، فإنها تصبح مصدر اغتراب تعيشه المرأة المسلمة، يتجلى في مفارقات حقيقية، مثل: كيفية التوفيق بين فكرة أنَّ شهادة المرأة نصف شهادة الرجل (أو عدم أهليتها  للشهادة)، وتَبوُّؤ المرأة -حديثًا- لمناصب عليا، منها القضاء أو رئاسة الدولة! وأيضًا كيفية التوفيق بين تلك الفكرة وكون النساء يمارسن فعلًا في المملكة المغربية وظيفة العدل (أو المُوثِّق الشرعي)، الذي يستقبل الشهادات ويوثقها!

برأيي، تجدر الإشارة والتشجيع على بداية فقهٍ نِسوي يقوم بقراءة القرآن قراءة مختلفة، مسترشِدًا بنساء رائدات، مثل: عائشة زوجة الرسول، التي رفضت واستنكرت حديثًا يشبِّه النساء بـ"الكلاب والحمير"؛ وأم سلَمة التي تُعتبر رمزًا للمرافعة عن المساواة بين الرجال والنساء في الخطاب الإلهي، إذ ساءلت الرسول عن سبب عدم مخاطبة الله للنساء بشكل مباشر في القرآن، ومِن ثَمّ بدأ الوحي ينزل في بعض آياته بصيغة "المسلمين والمسلمات".

يا للأسف، لا يزال هناك من يسعون -في إطار ما يسمى الإعجاز العلمي في القرآن- للبحث عن نظريات علمية، حول اضطراب ذاكرة المرأة وتأثُّرها بالحالات الفسيولوجية، لإثبات الحقَّانيَّة الدائمة والعامة للأحكام القرآنية بخصوص شهادة المرأة، متغافلين عن كون النساء دخَلْن مجالات علمية دقيقة تتطلب قدرة تذكُّرية وفكرية عالية. لذا، وبدل البحث عن إعجاز علمي يكرس التمييز الديني ضد المرأة، كان الأجدر بناء فقه مبني على لاهوت قويم، يقدس الكرامة بدل النصوص، ويؤكد أن التطور سنَّة كونية يرافقها تطور في طريقة فهمنا للنصوص، ولمفهوم الله نفسه، باعتبار ذلك حضورًا إيجابيًّا في العالم، يمنحنا الثقة لكي نفهم النصوص في ضوء ما يجب إنجازه أخلاقيًّا. فالله الحي يتحدث إلينا دومًا من خلال لغتنا، وسياقاتنا الإنسانية. والله أعلم.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive