الرجوع

عن مونديال المغرب ولشبونة والأشرفية!

الإثنين

م ٢٠٢٢/١٢/١٩ |

هـ ١٤٤٤/٠٥/٢٦

يجعلنا المونديال، وهو حدث ملتبس سياسيًّا واقتصاديًّا على أي حال، نسأل أنفسنا كل مرة ذات الأسئلة تقريبًا: "كيف نختار فريقًا نشجعه؟ ولماذا نختار هذا الفريق أو ذاك؟ ولماذا نشجع بلدانًا أخرى، هي ليست بلداننا في الأساس؟". نعود هنا ونسأل أنفسنا: "ما بلداننا؟ ومن نحن؟". فإنْ كنتُ لبنانيًّا، أستطِعْ أن أحب بين أربعة وخمسة ملايين شخص آخر لا أعرفهم، ولم ألتقِ بهم في حياتي، لا لشيء إلا لأنهم لبنانيون/ات مثلي فقط. ألا يعني هذا أني أستطيع أن أحب بقية العالم بذات الطريقة، ووفقًا للقواعد نفسها؟ ربما يكون هذا خروجًا عن الموضوع. لكن، ما يمكننا استنتاجه أن المونديال هو نتيجة الدولة القومية، وهو نقيضها أيضًا، وما كان يمكن أن يحدث في زمن الإمبراطوريات.

فجأة، في هذه المعمعة، يلعب المنتخب المغربي مع المنتخب الإسباني. قد تتذكّر أول وهلة برشلونة، كما تبدو من طنجة في رواية ماتياس إينار: تتلألأ من بعيد. وقد تتنبَّه على أن برشلونة لا تعتبر نفسها جزءًا من إسبانيا، أو على الأقل تعتبر هويتها جزءًا من نقاشٍ مفتوح. لكنها، بالنسبة إلى الناظر من طنجة، إسبانيا. هناك، خلف المضيق. وعندما نقول المضيق، فنحن طبعًا لا يمكننا تجاهل صاحب الاسم، أي طارق بن زياد. وهكذا، ندلف في تقصِّي التاريخ، كما تبحر السفن في المضيق، وننتبه لكوننا ما زلنا نعبر الطرقات نفسها، حتى في البحر، أو في الذاكرة التي توارثناها. 

نتخفف من عُقد الماضي، بين "المُزاح والجد". نشجع المغرب، لأننا نعتقد أننا نشجع أنفسنا. فهو يشبهنا أحيانًا، كما قد تشبهنا إسبانيا في أحيان أخرى. فالحاضر لا وجود له في النهاية. نحن عبارة عن ماضٍ فقط، يتحول إلى مستقبل بين ثانية وأخرى. وبيننا من يشجع إسبانيا. وهو محق في النهاية، في أن اللاعبين مجرد لاعبين، ولا نية لديهم في اجتياز المضيق، وتعليق الرؤوس على الحراب، كما فعل أجدادهم المستعمِرون.

فجأة، يربح المغرب. نتجاوز الضيق والمضيق. الضيق الذي يسببه انتظار النهاية، والمضيق إلى الدور المقبل. هذه مجرد لعبة. لم يكن الأمر متوقعًا. يملك الإسبان فريقًا متطورًا، وتاريخًا رياضيًّا كبيرًا. يملكون كل المقومات التي تجعلهم فريقًا مؤهلًا للفوز. صحيح أن الذين يعرفون عن كرة القدم، أو المهووسين بها، لم يستغربوا فوز المغرب، لأنهم على علم بقوة الفريق المغربي، إلا أن صوتهم بقي خافتًا. فالحدث كبير، ولا صوت يعلو فوق صوت المعمعة. وفي المعمعة، حاضرًا وماضيًا، إسبانيا أقوى من المغرب. ثم حدثت المفاجأة الكبرى. أكمل التاريخ زحفه، بشكل عجيب، نحو الحاضر. فجأة، سيلعب المغرب في الدور المقبل، مع الجار الآخر في شبه الجزيرة الإيبيرية، أيْ -بلغة الماضي- مع المستعمِر الآخر: البرتغال.

هذه المرة سيختفي إينار. وليس منطقيًّا في وسط هذا الحشد والتحشيد، قبل مباراة المغرب والبرتغال، ألا نتذكر ساراماغو، إن كنا نعرفه طبعًا. فلنتخيل أن الصليبيين لم يساعدوا البرتغاليين، خلال حصار لشبونة عام ١١٤٧. وهذا ليس جديدًا، أي استخدام الخيال؛ إذ سبقنا إليه الكاتب البرتغالي الكبير. ففي روايته الشهيرة "قصة حصار لشبونة"، يخترع ساراماغو تاريخًا بديلًا، وينسبه إلى بطل الرواية المتهور "ريموندو سيلفا" (وربما تجمعه قرابة ببرناردو سيلفا، أو أندريه سيلفا، المهاجمَين الممتازَين في الفريق البرتغالي). وقد نتهم الرواية هنا، كما تتهم الجماهير عادةً، بأنها تستحضر الماضي العنيف مجددًا، وتزجّه في لعبة "بريئة"، تدور حول مليارات الدولارات. 

المفارقة، أنّ الصليبيين بادروا إلى حضور المونديال. فقد جاء بعض المشجعين الإنكليز إلى الدوحة بثياب المحاربين في الحملات الصليبية. وهذه الصور، باتت رائجة في المدرجات. وقبل هذه المرة، لم يكن يستهجن أحد. وقد فعل مشجعون مماثلون الأمر نفسه في مناسبات سابقة. ما الذي يجول في رؤوسهم؟ لماذا، نحن البشر، نجمع في المونديال بين الشكل القومي الذي تقوم عليه الفرق المشابهة، والحنين إلى الأزمان السابقة؟ يبدو هذا سؤالًا أصعب، لا نعرف إلى من نوجهه، ولا كيفية الإجابة عنه. يبدو هذا ساذجًا، تمامًا مثلما تبدو الفكرة السابقة عن شرط الوطنية، أي أن تحب أربعة أو خمسة ملايين لبناني آخر، تجتمع معهم على أرض واحدة، وفق عقد اجتماعي يقوم على السيادة، وعلى تبادل الود والمصالح المشتركة. فبسبب الميديا، والحماسة الزائدة، ومع أنه لا تنقصنا القضايا في لبنان، حيث إنها متوافرة، وتكفي شعبين أو ثلاثة غيرنا على طفرتها؛ اختلط الأمر على المشجعين والمشجعات المتحمسين. فحملوا أعلامهم العربية كأنها رايات، وطافوا بها حول البيوت في الأشرفية. سرعان ما اختلط الأمر على الجميع، بين لشبونة والأشرفية، وبين العامين ١١٤٧ و٢٠٢٢. فشعر الزائرون بأنهم يَعبرون مضيق جبل طارق، وشعر المدافعون بأنهم يحاصرون لشبونة. 

إلا أنها -بنظر بعضهم- كانت لعبة باهتة، لا يشعر الناظر إليها بأي حماسة، مقارَنةً بفتنة التاريخ الراكدة. في اليوم التالي، عادت الحياة إلى بيروت. وبينما كانت الشمس تشق طريقها إلى البحر، وهي تلامس الأفق الساطع، تمامًا كما يختم ساراماغو روايته، أطلق الحكم صافرة النهاية. فغادر المغرب المونديال، برأسٍ مرفوعة. وغادرْنا معه ذاكرتنا، إلى حين.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive