الرجوع

أكبر طبقة وسطى للفقراء في العالم

الخميس

م ٢٠٢٢/٠٩/٢٩ |

هـ ١٤٤٤/٠٣/٠٤

في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، انطلقت احتجاجات صاخبة من ضواحي المدن الإيرانية الكبيرة. نتحدث هنا عن طهران ومشهد وشيراز، وغيرها من المدن الكبيرة التي انتفض أهلها، بسبب مطالب اجتماعية اقتصادية واضحة. آنذاك، وصلت الاحتجاجات إلى ذروتها في ضواحي مدينة مشهد، عندما جرى احتلال مقرات الشرطة، وسقط مئات القتلى في يومٍ واحد. 

نلاحظ أن الوقت الذي جرت فيه الاحتجاجات في ذلك الجزء من العالم، كان مشابهًا للوقت الذي كان فيه جدار برلين ينهار، وكان فيه العمال في أنحاء العالم يستيقظون ليجدوا شروطًا جديدة، وعالَمًا نيوليبراليًّا في عزّ انطلاقته. أما في أواخر العقد الأول من القرن الحالي، أي في سنة ٢٠٠٩، فكانت انتفاضة الإيرانيين ملوَّنة. كانت متسقة مع ما يحدث في العالم من تظاهرات، ثم إنها انطلقت من شمال العاصمة، ولم تستطع الوصول إلى الأطراف، على عكس الاحتجاجات الأخرى. ولا يعني ذلك طبعًا أن ثمة "مؤامرة"، لكنه يعني -ببساطة- أن إيران مثل بقية دول العالم، يحدث فيها ما يحدث من احتجاج، عندما يجد الناس أنفسهم تحت رحمة "اقتصاد السوق" من جهة، وفي قبضة الدولة الأمنية من جهة أخرى. 

يوجد ما يميّز إيران، كما يوجد ما يميّز كل دولة. وهذا الاختلاف لا يمكن أن يكون عرضًا بسيطًا، بل يحتاج إلى بحثٍ معمق. لذلك، فإن معظم الآراء التي تصدر حول إيران اليوم (المؤيدة للاحتجاجات والمتحفظة عليها)، هي في غالبيتها آراء عامة، تصلح لأن تُواجَه بذات الطريقة، وباستخدام ذات المفردات، حتى في جميع الحالات المشابهة. وعليه، تُعتبر آراء "على السطح".

في الانتفاضات الإيرانية -على الأقل- يجب التمييز بين مصدرين داخليين أساسيين. المصدر الأول هو الأرياف والضواحي، والمناطق التي هي خارج المركز عمومًا، تمامًا كما حدث في تظاهرات التسعينيات، أو خلال موجات متعددة من الاعتراضات التي سبقت الاحتجاجات الأخيرة. في هذه الحالة، تأتي الوجوه من أماكن متخمة بالفقر، وتتركز المطالب في تحسين شروط الحياة لجهة الدخل والبنى التحتية وغير ذلك. ولا تحضر الحرية بصفتها أيقونة، أو تغيير النظام بصفته ضرورة بالنسبة إلى هؤلاء. 

المصدر الثاني أكثر تعقيدًا، ويبدو أول وهلة أن هناك شخصيات إصلاحية رئيسية، تحظى بمكانة وموقع ثقافيَّين، يؤهلانها لقيادة الاحتجاجات أو تأجيجها، كما حدث في سنة ٢٠٠٩، عندما انطلقت الثورة الخضراء. وهذا ما قد يفسّر أنّ جلّ مطالب تلك الاحتجاجات، كان متعلقًا بالحرية وبالنظام السياسي، وهو أيضًا ما يفسّر طريقة تعامل النظام مع كل واحدٍ من الاحتجاجَين. بكثيرٍ من التسرع، يمكن افتراض أن المحتجين اليوم ينتمون إلى طبقة وسطى، وليس إلى طبقة معدمة، بسبب تبنيهم مطالب سياسية، أو لأنهم في النهاية يرفعون الحرية شعارًا. لكن، من هؤلاء فعلًا؟

إنهم فقراء أيضًا، فقراء الطبقة الوسطى، الذين يواجهون صعوبة فردية وجماعية على السواء، بالاعتراف بموقعهم الطبقي الجديد. فلقد تلقَّوا تعليمًا جيدًا، وهم ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، ويعتبرون أنفسهم أشخاصًا مؤثرين، إذ يفهمون ما يحدث في العالم، ويتحدثون بلغات أجنبية. لكنهم في النهاية، يعيشون في عشوائيات، ولا يمكنهم الحصول على أجور مناسبة غالبًا، ومِن ثَمّ يعيشون فقراء. وما قد يكون مخيفًا فعلًا، أنّ هذه الطبقة لا تملك تصورًا واضحًا عن المستقبل. وقد يعتقد المنتسبون إليها -بسبب تنامي النزعة الفردانية في العالم- أنّ كل شيء قابل للتغيير، وأن التضامن ليس ضروريًّا إلا في مراحل محددة، ومع أشخاص يملكون التصورات ذاتها عن العالم، وعن الفردانية نفسها، من دون أن يكون أي من ذلك متفَقًا عليه. 

مِثل بيروت، قد تكون طهران اليوم، حيث يمكننا العثور فيها على أكبر طبقة وسطى في العالم، قوامها من الفقراء. نتحدث بطبقة جديدة لم تكن موجودة، ولم يكن يعي المنتسبون إليها وجودهم فيها أو حولها. يعيش أفراد هذه الطبقة اليوم على حافة اقتصاد السوق تمامًا، حيث يمكنهم أن يعاينوا بوضوح وبدون مكابرة الهوة التي خلفها هذا الاقتصاد، وقد تراكمت تحت في القعر وعلى السطح، أحلام الرفاه والتصورات الأخرى عن التميّز والمبادرة الفردية. مع ذلك ولعدة أسباب، تشهد هذه الطبقة تناقضات ضخمة، تتمثل بإنكار هذه الحقائق، واستمرار هيمنة النزعات الفردانية على الاحتجاجات. لكن، ما يبقى لافتًا دائمًا هو قدرة هذه الأحداث الهائلة على التجريد. 

في التظاهرات الإيرانية، كما في الحالات المشابهة، تختفي الأسئلة الرئيسية خلف نظريتين. الأولى: هي نظرية "المؤامرة"، التي يبدو لافتًا أنها -مع اجترارها- ما زالت صالحة للتداول على نطاق واسع. والنظرية الثانية: هي نظرية "الثورة"، مع أنه لا نظرية ثورية، وليس من خطاب –حتى الآن– يجمع بين مصالح المعترضين المشتركة، أي الحرية والعدالة الاجتماعية. 

هذه الأحداث تقود، أو أنّها ستقود، إلى ثورة. هذا ما يعتقده الناس. ويجد هذا التصور غالبًا ما يحميه من النتائج، حيث يمكن القول: إنّ الانتفاضات المتكررة ستؤدي في النهاية إلى ثورة. وربما يكون ذلك حقيقيًّا. لكن، ليس من الممكن تجاهل الحقائق الأخرى، وهي أن الذين لم ينتسبوا إلى الاعتراض، ليسوا قلةً أيضًا. وربما يملكون الشرعية بدورهم في الاعتراض، على الاعتراض!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive