الرجوع

عاشوراء بريشة "خسرو حسن زاده"

الخميس

م ٢٠٢٣/٠٧/٢٠ |

هـ ١٤٤٥/٠١/٠٣

في "عاشوراء" -بحسب ما رآها الفنان الإيراني خسرو حسن زاده- تصطف النساء بعضهن إلى جانب بعض، لا رجال بينهن يقتحمون المشهد، فيحتلون الفضاء العام احتلالًا تامًّا. ترتفع قاماتهن إلى الأعلى حتى تصل إلى السماء. تختبئ أجسادهن خلف الحزن، متشحات بالسواد الذي يأتي من وحي المناسبة، ومن ضيق المساحة المخصصة لهن للاحتفاء بالحزن. لا تظهر وجوههن اعتراضًا على الضيق، ولأن أحزانهن تتضاعف وتتضاعف. حزنٌ على الذكرى في حدّ ذاتها التي تُقدّم الفداء على الذات، وتُظهر طريقًا لكثيرين/ات يصِلون في نهايته إلى خلاص من عالم الذنوب؛ وحزنٌ على اختفاء الوجوه الممنوعة من إشهار العاطفة، ومن حقها في الجهر بالبكاء. وعندما تظهر الوجوه، تظهر كاستعارات من الموروث الشعبي، تحديدًا من تمثيل المرأة بالمنمنمات الفارسية القديمة. 

في هذه العلاقة بين الذكرى العظيمة واللوحة الحاضرة والوجوه الغائبة والحزن المهيب، يقدّم حسن زاده فنًّا شخصيًّا في ظاهره، وعامًّا في جانب من جوانبه، فنًّا يملك إمكانات الحياة، ويملك الأهلية اللازمة لخوض السجالات. فالفن الذي لا يثير الأسئلة، لا يمكنه تقديم أية أجوبة. والذكرى الثرية بالاعتبارات، والمشحونة بفائض من الدلالات الإنسانية، تحث على الرغبة في المعرفة، ولا تطلب اعترافًا مجردًا. وفي مكان آخر، يَظهر الرجال، في فضاء آخر، وفي لوحة أخرى مستقلة. لا يلتقون مع النساء، ويشهرون حزنهم بطريقة مختلفة. 

مع أن أعماله تندرج في خانة الفنون التي تبحث عن المفاهيم، أشهَرَ حسن زاده في أعماله الكثير من المواقف المباشرة. وبرأي كثيرين كان ذلك سببًا لقوتها، وبرأي كثيرين أيضًا كان ذلك سببًا لإضعافها في كثير من الأحيان. قبل كل شيء، يجب تأكيد أن أعماله، ولا سيما "عاشوراء"، لم تأتِ من الخارج، بل من الداخل. فهو عاش في هذا المجتمع، واستعار منه رموزًا سيميائية، محاولًا إعادة صياغتها في سياقاتها المجتمعية والدينية، لإنتاج ما يمكننا تسميته بالفن المعاصر. وربما لهذه الأسباب أيضًا، فإننا عندما ننظر إلى "عاشوراء" (عمله الأول الذي يتطرق إلى مناسبة دينية)، ومن بعده إلى عمله "يا عليُّ مَدَد"، سنشعر بأنهما من الأعمال التي شاهدناها سابقًا، ولكنهما قد يبدوان عملَين جديدَين تمامًا. وليس هذا لأن المديح هو كل ما يمكننا تقديمه لحسن زاده، بل لأن الأعمال الفنية تنتقد الاستئثار بالذاكرة الجماعية واحتكار تمثيلها، وفي ذات الوقت تُقدّم لنا فسحة لأنْ ننتقد أعماله الفنية عينها أيضًا. 

غالب الظن أنه ولهذه الأسباب، وبسرعة، وجَدَ خسرو حسن زاده نفسه في مهبِّ انتقادَين رئيسَين: الأول منهما مُحافظ جدًّا، يرفض أي تمثيل للواقعة الدينية في العمل الفني. والنقد الثاني كان أكثر جدية، إذ رأى ويرى كثيرون/ات أن في التركيز على المرأة المسلمة المغطاة بالأسود، استجابةً مطلقة للتصورات الغربية الاستشراقية عن المرأة. بمتابعة أعمال الفنان الإيراني، يتضح أن أعماله لم تحاول إعادة بناء الهوية الإيرانية -وتحديدًا الشيعية- بما يناسب التصورات الغربية عن هذه الهوية، ولكنها في كثير من الأحيان كانت قد استجابت لهذه الرغبة الغربية، أو تقاطعت معها. وبرأي كثيرين/ات أيضًا، قد لا تُحسب هذه خطيئة. فمع أن نظره كان مصوَّبًا إلى الغرب، كان أيضًا فنانًا عضويًّا، يفضّل الحياة بين الناس، والخروج بأفكاره من هناك. 

الآراء المشحونة بالأيديولوجيا لا تُسقط ملاحظتين أساسيتين، حول هذا النوع من الأعمال عمومًا. الأولى منهما هي أن العلاقة بين الفن والدين في الشرق أكثر تعقيدًا مما هي عليه في الغرب. والسبب في ذلك ليس تقدُّم الغرب الفطري في الفن، أو في فهم الدين، إنما في العلاقة بين الأمرين، القائمة على توضيح حدود علاقة الدين في الأساس بالفضاء العام، وعبْر سياقات تاريخية تحديدُها ليس صعبًا. الملاحظة الثانية هي أن الفنانين -أمثال حسن زاده- يعانون التباسًا يكاد يكون وجوديًّا، بسبب العلاقة بـ"الجمهور" أو "السوق" الذي ينتظر ما يقدمونه. فالسوق الأوروبية، وبسبب هيمنة المركزية الأوروبية على الفنون، هي التي قد تمنحهم اعترافًا وجمهورًا ونقدًا وما إلى ذلك. وهذا ما قد يجعل الفنانين في خانة محددة، بحيث يَنتظر منهم الغرب تمثيلات محددة عن الإسلام والمرأة، تُناسب التصورات الغربية، ولا تعكس بالضرورة رغبات الفنانين وحقيقة مشاعرهم حول الأمر. وبهذا المعنى، ربما يكون الإفراط في "جلد الذات"، أي جلد المجتمع، تعبيرًا لاواعيًا -سنجده في أعمال حسن زاده- عن استجابة أحيانًا قد تكون مبالغًا فيها، لِما يحب الغرب أن يراه في الإسلام والمسلمين. ومع أنه رفض ذلك مرارًا، إلا أن تناوله هذه المواضيع، استُغل من المسوّق الغربي، حيث عُرضت أعماله "في كثير من العواصم الغربية" لأهداف استشراقية.

في اليوم الثاني من الشهر الحالي (تموز/يوليو ٢٠٢٣)، رحل الفنان الإيراني، الذي قاتل في سنواته الأولى في الحرب الإيرانية العراقية. ويبدو أن العنف الذي تنتجه الحروب بقي حاضرًا في أعماله دائمًا. وبمعزل عن النقاش حول أصالة أعماله أو قلقها من النظرة الخارجية، يمكننا تأكيد أنها كانت محاولة متواصلة للتطهر من العنف ومن الخوف. لقد كانت حزنًا شخصيًّا.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive